كتابات | آراء

الإعلام .. والقضية الفلـسطينية

الإعلام .. والقضية الفلـسطينية

يشكل الاعلام جزءاً رئيسياً من أي سلطة قائمة، ليس بكونه يمثل لسان حالها والناطق الرسمي باسمها وحسب، وانما بكونه الموجه الاساس لأهدافها بل الموصل والمبرمج لاستراتيجيتها . فهو كل تعبير شفهي يمجد سياستها او ناطق رمزي يسوق ايديولوجيتها ويصوغ فكرها وثقافتها بشكل او باخر .

اذ لا سلطة قائمة بدون ملازمة حالة اعلامية بالضرورة، أيا كانت مستويات هذه السلطة وهذه الحالة الاعلامية .
والقضية الفلسطينية ليست بمنأى عن هذا السياق المفاهيمي، حيث اخذت ابعادا واشكالا مختلفة في مختلف وسائل الاعلام المتنوعة سوف نقتصر على التطرق اليها في ثلاثة نماذج اعلامية مختلفة هي الاعلام الصهيوني والاعلام العربي المطبع والاعلام العربي المقاوم بشقيه اليساري واليميني(الاسلامي) ان جاز التعبير.

اولا: الاعلام الصهيوني:
تناول الاعلام الصهيوني (الاسرائيلي) القضية الفلسطينية بنوع من العدائية الشديدة وذلك من منطلق العداء التاريخي بين اليهود والمسلمين، حيث الصراع اخذ منحى دينيا وجوديا صاحبه ظاهرة اعلامية دعائية تشيطن الاخر الفلسطيني وتصفه بكل انواع الموبقات .
فالكيان الاسرائيلي منذ غرسه قسرا في الجسم العربي وفي ارض فلسطين مارس منذ اللحظة الاولى بروبوجندا زائفة ضد الفلسطينيين بغية استعطاف الراي العام الدولي وتشويه سمعة الفلسطينيين، كما صاحبه نشوء ظاهرة اعلامية موجهة تصب في المجمل في خدمة اجندته وتحقيق استراتيجياته .
حيث من المعروف تاريخيا ان الكيان الاسرائيلي نشأ على شكل عصابات وجماعات ارهابية لعل اهمها فرق "الهاغانا" التي وفرت لها بريطانيا الحماية وساعدت في نفس الوقت على تشجيع الهجرة اليهودية الى فلسطين زمن الاستعمار البريطاني 1918- 1948م، وكانت تساندها ظاهرة اعلامية ودعائية واسعة لاقت استقطاباً وتعاطفاً غربياً على حساب الحقوق الفلسطينية كما كانت تطلق دعاية مضادة ضد الفلسطينيين وتتهمهم ببيع اراضيهم وبيوتهم لليهود، وكانت تلك الدعاية الاعلامية ضد الفلسطينيين تنطلق من خلفية توراتية مؤداها التسويغ لأرض الميعاد في التراث الديني اليهودي وهو ما لاقت استجابة وتحمساً لدى الاقليات اليهودية في العالم، بل ورواجا عالمياً منقطع النظير لاسيما وان المنظمات اليهودية / الصهيونية اصبحت تتحكم في الراسمال الدولي وقتئذ وهو ما اتاح لها القدرة على التحكم وامتلاك وسائل اعلام ضخمة ومتطورة . وبالإضافة الى ذلك كانت الدعاية الاعلامية الصهيونية تصور للعالم ان اليهود مضطهدون في فلسطين، كما استثمرت اعلاميا مذبحة الهيلوكست 1941م عقب الحرب العالمية الثانية ولاقت تعاطفا دوليا واسعا خاصة من الغرب الأوروبي وامريكا.
وبعد هزيمة العرب في عام 1948م انتقلت الدعاية الصهيونية الى مرحلة من الزهو والتغني بالانتصار الذي صوره اليهود في خطاباتهم الاعلامية على انه انتصار الهي ومقدمة لتحيق نبؤتهم في اورشليم القدس(مدينة الله) واعادة هيكلهم المزعوم، الامر الذي كثف من خطابهم الاعلامي وزاده انتشارا وسعة بما يمتلكه من دعم وامكانيات حديثة ومتطورة بحيث استطاع ان يصور ان المجتمع الاسرائيلي او الاقلية اليهودية بمعنى اصح تعيش حالة غربة في وسط محيط عربي معاد، صاحب ذلك انتشار ما اطلقت عليه بعض الوسائل الاعلامية الصهيونية مصطلح (معاداة السامية ) على اعتبار ان اسرائيل جزء اصيل من السامية . كل هذه البروبوجندا التي روجت لها الالة الاعلامية الصهيونية مرت بعدة مراحل من التطور الاعلامي والسياسي وذلك تبعا للحالة السياسية والعسكرية التي مرت بها اسرائيل نفسها، فكلما كانت تحقق نصرا على العرب والفلسطينيين كانت تغير من سياستها الاعلامية بما يخدم اجندتها وتحقيق اهدافها، حتى وصلت الى المرحلة الراهنة التي تخبط فيها الاعلام الاسرائيلي وبات يكثف تزييف الوعي لدى الراي العام الدولي والمحلي، وان بدت بعض القنوات الاعلامية الاسرائيلة بصورة الناقد لسياسة الحكومة اللاسرائيلة تجاه الحرب التي تخوضها عدوانا ضد قطاع غزة. يقابله فتور وتراجع عربي على كافة الاصعدة بما في ذلك الخطاب الاعلامي وهو ما ستوضحه الاسطر التالية.
ثانيا: الاعلام العربي المطبع:
لان الاعلام عموما حالة انسانية مصاحبة، وضرورة سلطوية ملازمة، بالتالي فان كل السلطات العربية قد استخدمته على نحو او اخر، والاعلام العربي قد انقسم على نفسه تجاه القضية الفلسطينية الى عدة اتجاهات ومواقف لعل من اهمها اتجاه يمكن ان نطلق عليه مطبع مع العدو بمختلف تعبيراته، واتجاه مقاوم للعدو بكافة اطيافه ومسمياته.
فالإعلام العربي المطبع ربما انه بدأ هذه السياسة منذ زمن وان تستر حينا بالاسلاموية او القوموية حيث اتصفت عدة وسائل اعلام عربية بالمهادنة الاعلامية تجاه العدو الاسرائيلي بدعوى البرجماتية السياسية ومجاراة الامر الواقع المفروض قسرا بطبيعة الحال.
تطورت هذه الوسائل الاعلامية في خطابها شيئا فشيئا حتى تحولت بالتقادم الى مروجة صراحة للسياسة الصهيونية تحت لافتات ومسميات تبريرية عديدة الى ان وصلت في اوج مراحلها الى ما يشبه البوق الاعلامي الذي يسوغ، بطريقة او بأخرى، للعدو الاسرائيلي سياسته بل والمروج من حيث يدرك او لا يدرك لثقافته واجنداته، تحت لافتات مشبوهة وربما منبطحة بقصد خلق حالة من الرضى والتطبيع لدى الراي العام الدولي والمحلي . هذا التناغم اللا واعي مع الخطاب الاعلامي للعدو تمرحل وفق الظروف السياسية والتاريخية التي مرت بها المنطقة العربية منذ نشأة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وحتى الراهن . فقد طغت على هذا الاعلام الموصوف بالمهادن او المطبع بمعنى اصح ما يمكن ان نسميه حالة من التخبط ان لم تكن التزييف والخداع للجمهور العربي الاسلامي حيث ظهر منذ نكبة 48 بالواعظ الحريص على مصالح الامة الى ان تناغم وتكيف مع الوضع العام الذي افرزته تداعيات نكسة 67 بعد هزيمة عبدالناصر وما تلاه من اتفاقية كامب ديفيد 1978م وشروطها الانهزامية المذلة للعرب . اما بعد اتفاقيات اسلو عام 1993م التي على ضوئها دخلت القضية الفلسطينية منعطفا خطيرا وتبددت او تلاشت مطالب حل الدولتين فان هذا الاعلام كيف ايضا خطابه وفق افرازاتها وبدأ بصورة واضحة وجلية الترويج لثقافة التطبيع والتعايش مع العدو تحت لافتة تحقيق السلام المزعوم، ان لم يتماهى مع الخطاب الصهيوني الداعي خداعا الى تلك الثقافة الى حد تبني نفس الخطاب ونفس القضايا ووصف كل من يغاير هذا النهج بالتطرف والارهاب سواء يمينا او يسارا .
هذا الاعلام الذي استخدم سياسة تزييف الوعي كرس بطريقة او بأخرى، ما يمكن ان نطلق عليه حالة القبول بالأمر الواقع في وعي وعقول الجماهير العربية على اعتبار ان اسرائيل حالة عسكرية وسياسية يصعب هزيمتها ناهيك عن محوها من الوجود . تمثلت اولى المؤشرات لهذا الخطاب في مسمى اسرائيل صراحة دون وصفه بالكيان او العدو . وهذا المصطلح عمم على كل وسائل الاعلام المطبعة، تلا ذلك الترويج وانزال الخارطة الجغرافية والسياسية لإسرائيل ضمن خارطة الوطن العربي او ما اطلقت عليه الشرق الاوسط، كنوع من تجسير وترسيخ ثقافة التطبيع، وهو ما خلق حالة اعلامية شبه مقبولة ومستساغة لدى جمهور واسع من البلاد العربية، هذه الحالة من التشويش والتخبط الاعلامي مارسته كل وسائل الاعلام العربي التي اتخذت نهج التطبيع مع العدو حيث عجت مصطلحاتها الذي اتسم به خطابها الاعلامي بالمصالحة والمهادنة مع العدو، كما تبدلت تلك المصطلحات وفق الظرفية السياسية والمزاج العربي العام وبشكل تدريجي تسويقي ابتداء بوصف ( العدو الصهيوني، والكيان الاسرائيلي، الى الاحتلال والاستعمار ومن ثم دولة اسرائيل . الخ).
على اية حال ثمة وسائل اعلام عربية انتهجت سياسة المهادنة والمصالحة مع اسرائيل تبدل خطابها الاعلامي وتكيف وفق المرحلية السياسية والعسكرية، وتمرحل في سياسته الاعلامية الى ان وصل الى مرحلة التطبيع حيث ظلت وسائله تنضح بمحتوى اعلامي مخادع ومخاتل، حينا تحت دعاية محاربة المد اليساري وحينا آخر بذريعة محاربة الارهاب والتطرف . وهو ما يجعلنا نجزم ان هذا النوع من الاعلام لم يمتلك اهداف واستراتيجيات طويلة المدى بقدر ما هو صدى لحالة مزاجية لحظية فرضتها الظروف ونمطتها العوامل المحيطة بحيث ابدته امام الجمهور العربي والقارئ الحصيف بمثابة البروبوجندا الزائفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع ان جاز الوصف.. والغريب في الامر ان بعض الوسائل الاعلامية الفلسطينية تناغمت مع هذا الخطاب وتبدت كما لو انها بدون قضية اللهم استخدامها للقضية الفلسطينية للمتاجرة ليس الا.

ثالثا: الاعلام العربي المقاوم :
لا يختلف كثيرا الاعلام العربي المقاوم عن بقية وسائل الاعلام الاخرى من حيث الوسيلة والالية وربما المتلقي اللهم الا من حيث محتوى الرسالة ومضامينها الثورية الموجهة صراحة نحو الكيان الاسرائيلي والعدائية الشديدة لسياسته وثقافته ودينه .
هذا الاعلام هو الاخر تمرحل في موضوع تناوله للقضية الفلسطينية فحينا يزداد ثورية وحينا يخفت او يمر بمرحلة استراحة ان جاز الوصف، حيث انه انعكاس للحالة السياسية التي كانت تمر بها الدول التي تبنته، ففي مرحلة العرب الباردة والاستقطاب الدولي بين المعسكرين الشرقي والغربي كان هذا الاعلام بمثابة صدى ايديولوجيا وبوقا اعلاميا لتلك الحالة وثقافتها والذي من خلالها نظر الى القضية الفلسطينية وتبنى الترويج لها من تلك الزاوية حيث رأى انه من الاجدر لها ان تكون في البداية قضية فلسطينية محضة ومن ثم لا باس ان تنخرط في قضايا التحرر العالمية وتصبح في ظل خطاب ثوري قضية مركزية بالنسبة له . كما ان بعض ادبيات الخطاب الاعلامي المقاوم تنظر الى القضية الفلسطينية من منظار وطني طبقي تحرري، قائم على المبدئية والصرامة الايديولوجية وليس من باب الدعاية والتسويق السياسي حسب تعبيره.
والدليل على ذلك كانت معظم الوسائل الاعلامية لليسار العربي تتناول القضية الفلسطينية وتخصص لها حيزا كبيرا من برامجها وفتراتها البرامجية الى ان وصل في مراحله الاخيرة الى مرحلة من الرتابة والتخشب .
هذا الخطاب الاعلامي المعادي لإسرائيل ظل يحتفظ بقدر عالي من مفرداته ومصطلحاته الاعلامية الرافضة للكيان الاسرائيلي، وعلى الرغم مما مر به من فترات تذبذبت بين القوة والزخم والفتور والتلطيف وفق الظروف، لكنه على اية حال، مثل خطا اعلاميا متقدما ضد السياسة الصهيونية في المنطقة وظل يشكل امتدادا اعلاميا لتاليه من الاعلام العربي المقاوم بنكته الجهادية المتمرد على كافة الاشكال والتقاليد التي انتهجها الاعلام السابق له . هذا الاعلام المتخلق من ظروف المرحلة تطور شيئا فشيئا برغم امكاناته المتواضعة، حيث تكمن قوته الحقيقية في قوة خطابه ومحورية قضيته المركزية التي يتبناها وهي القضية الفلسطينية التي على ما يبدو قد نساها الجميع في خضم التسابق نحو التطبيع، بحيث بدا اوحدا في مواصلة المشوار حينما نام الجميع وتخدر تحت طائلة ثقافة التطبيع الرائجة راهنا .
فنحن نلمس ونشاهد تخلق وولادة اعلام عربي جديد واستثنائي يحمل اهداف واجندة مغايرة وجديدة تشيء في المجمل بتسيد خطاب اعلامي ثوري / جهادي نوعي مختلف خطابا ومحتوى وتوجه .
انه اعلام المقاومة الذي تبنى صراحة وايمانا وبكل صدق قضايا الامة العربية والاسلامية، بعد ما اختزل في دفته مجموع الخطاب الاعلامي بشقيه القومي والثوري حينما اصابهما حالة من التخشب وربما النكوصية والارتدادية، ليواصل المشوار الاعلامي للقضية الفلسطينية العادلة، حيث تبناها وصاحب كل احداثها ليخلق من ثم حالة اعلامية مثقلة بالجيشان الفكري / النضالي الصادق بعيدا عن مخاتلة البروبوجندا الوظيفية الزائفة، او التهويمات الميتافيزيقية اللاغية .
الدليل القاطع ان هذه الحالة الاعلامية الاستثنائية لاقت وتلاقي من القبول والانتشار ما عجزت عنه الالة الاعلامية السابقة، وهو الامر الذي يبعث على الطمأنينة واليقين بإمكانية خلق وعي ثوري متجدد يناصر القضية الفلسطينية ويؤازرها بل وقضايا الامة قاطبة .
فيا ترى هل نحن قادمون على واقع اعلامي جديد ومغاير يتخلق من حيث لا يدرك الجميع ويتبنى القضية الفلسطينية بكل صدق وايمان واقتدار؟ ربما .وربما لازال الحلم بعيد المنال .

الخلاصة:
خرجت هذه الورقة بجملة من الاستنتاجات يمكن تلخيصها في الاتي:
- مثلت القضية الفلسطينية لمختلف وسائل الاعلام العربية القضية المركزية والمحورية سلبا او ايجابا.
-  ثمة اعلام صهيوني موجه تعامل مع القضية الفلسطينية من منطلق عدائي ذو خلفية دينية توراتية.
- هناك وسائل اعلام عربية اتخذت سياسة المهادنة والتطبيع مع العدو الاسرائيلي بدافع دعوى السلام المزعوم.
- وجود حالة فتور او استراحة لدى بعض وسائل الاعلام المحسوبة على الاتجاه الثوري المقاوم.
-  تنامي خطاب اعلامي جهادي مقاوم تشهده الساحة العربية على غير المعتاد من الاعلام التقليدي ينم عن مولد اعلام جديد ومغاير .

* عميد كلية الآداب - جامعة ذمار

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا