كتابات | آراء

غزة وحصار الإسلام الأطلسي

غزة وحصار الإسلام الأطلسي

كان الإسلام ولا يزال حركة تحرر للإنسانية جمعاء، وحركة عروج إلى العدالة والحرية والقيم الإنسانية، ولأنه كذلك فهو يمثل خطرا وتهديدا دائما لثالوث الهيمنة والاستبداد والتخلف، وسفينة النجاة لمن أراد أن يتحرر بحق، ولكن السؤال المشروع اليوم هو عن أي إسلام نتحدث؟

هل عن الإسلام الأميركي الذي استخدم في مواجهة المد الشيوعي أيام الحرب الباردة، ولحراسة التخلف والاستبداد بقوة البترودولار، أو الإسلام الأطلسي الذي يتحالف مع الأميركي، ويلهث وراء الاعتراف الأوروبي، ويتصالح مع أشكال ملتبسة من العلمانية المعادية للدين والقيم الدينية، أو الإسلام المتطرف الذي تحركه دوائر الإستخبارات العالمية لتشويه صورة الإسلام والمساعدة على وسم المسلمين بالإرهاب، أو الإسلام الذاتي التقليدي الذي تربى في أحضان المؤسسات الدينية الخادمة لنظم الاستبداد، وانكفأ عن دوره الحضاري والتاريخي وانشغل بفقه الفرد عن فقه الأمة.
من الواضح أن القوى الغربية لم تكتف بمنع ومحاربة ظهور الأطروحة الحضارية والثورة الإسلامية الأصيلة، بل صنعت ما يناسبها من أشكال للممارسة الإسلامية تتناسب مع مصالحها ومصالح المستبدين الذين يمثلون امتدادا عربيا وإسلاميا لها.
ومع توفر إمكانيات إعلامية هائلة لترويج الصور المشوهة للإسلام، وتعميم صور نمطية لا تمت إلى روح الإسلام بصلة، أصبح الإعلام في قلب المعركة التي تهدف هذه المرة لتحرير الصورة الناصعة للإسلام من الذين يجعلون "رزقهم أنهم يكذبون"، و تفشيل ذلك السعي الخبيث و الحثيث لجعل العنوان الإسلامي عنصر توتر في المجتمعات الإسلامية عبر مقاربته دائما بخطاب مذهبي مقيت أو بخطاب طائفي بغيض.
قال تعالى: يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره المشركون.
فبحثا عن ذلك النور المشع القادر على تحريرنا من طغاة الأرض وكهنة المعبد الاستعماري، لا بد لنا من تنقية الصورة، وتعزيز البصيرة ، فالمشكلة ليست دائما في عدونا بل أحيانا فينا.
بحسب آخر الأخبار بدأ القصف الصهيوني العنيف على رفح ، وهي آخر ملاذ لجوء داخل نطاق قطاع غزة، وهذا يعني أن الصهيونية اليهودية والعربية، لا تزال تدفع باتجاه تنفيذ مؤامرة الإبادة الجماعية والتهجير القسري، يريدون التخلص من هذا "النتوء" الغريب عن الحالة الإخوانية المتحالفة مع الغرب وإسرائيل في تركيا وقطر وتونس وليبيا وسوريا...إنهم زهرة النضال الفلسطيني التي أثمرت عملية "طوفان الأقصى"، ذلك التحول المهيب في مسار الصراع والذي لا يزال يسقى حتى اللحظة بدماء المقاومين والصامدين والمستضعفين من أهل غزة العزة.
يجب التوقف مليًا عند عواقب التعويل على أميركا حتى في تغيير أنظمة الحكم العميلة في العالم العربي، وهذا ما راهن عليه "إخوان الإسلام الأطلسي" في الربيع العربي، ونحن هنا نستند إلى معلومات مؤكدة وليس مجرد تحليل.
بدأت القصة بتنحية الزعيم التركي نجم الدين أربكان سنة 1996م بانقلاب عسكري كالعادة، بعد سنة واحدة من استلامه الحكومة التركية، كان أربكان صاحب مشروع التخلي عن الوقوف على أعتاب الإتحاد الأوروبي، والاستدارة باتجاه الشرق وبناء تحالفات إسلامية تكاملية.. وهو مفكر عميق ومجاهد عتيق درس في ألمانيا ويعلم حقيقة الغرب جيدا.
استبدل الرجل بالرئيس الحالي رجب طيب أردوغان الذي كان تلميذا له، فما كان من أربكان إلا أن فضح المستور وأعلن تكليف اردوغان من قبل الدوائر الماسونية والصهيونية الغربية، بقيادة عملية تغيير في العالم العربي يحكم فيها الإخوان "بالإسلام الأطلسي" مقابل تكريس الإتفاقات العربية مع إسرائيل ونسيان فلسطين.
أفصحت اللغة السلفية المتشددة ضد سوريا، والتي تبناها بشكل غريب أول وآخر رئيس إخواني لمصر وهو محمد مرسي عن معالم المشروع، ففي مؤتمر حاشد جمع بين الإخوان والسلفيين الخليجيين، أطلق الرئيس المصري السابق تهديدات، وبدأ بالفعل عملية تعبئة للمصريين للمساهمة في إسقاط النظام السوري، وكانت أفواج الإرهاب السلفي والتكفيري تعبر الحدود من تركيا إلى سوريا بما فيها داعش والقاعدة التي سميت فيما بعد النصرة، والتنظيمات السلفية التكفيرية الممولة خليجيا في آسيا الوسطى، مع نخبة من خبراء التخريب في كل المخابرات الغربية والعربية الحليفة، وترافق مع ذلك انتشار الخطباء السعوديين في مساجد مصر وعلى رأسهم العريفي، للمساهمة في إضفاء طابع ديني على محاولات إسقاط النظام السوري.
للوهلة الأولى بدا ان العملية تسير كالسيل الجارف، بعد أن سقط الرئيس المصري، بتحالف إخواني- أميركي، وصار الرئيس مبارك صاحب المقولة الشهيرة: "المتغطي بأميركا عريان".
وبعد تحالف طويل بين دول الخليج والإخوان المسلمين ضد التيارات القومية العلمانية، ظهر أن الأنظمة العربية التي تديرها غرفة أو أكثر في مبنى "السي آي إي" أصبح لها شريك في المبنى نفسه، فغرفة لدول في الخليج بقيادة السعودية، وغرفة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين بقيادة تركيا وقطر، وهكذا أمسكت أميركا برؤوس السلطة وقيادات التغيير، ونشأت حرب لا تزال محتدمة بين حكام العالم العربي من المطبخ القديم، وقيادات الإخوان الذين توزعوا على عواصم إسلامية وأوروبية ابتداء من أنقرة، ولم يتردد إخوان سوريا تحديدا في مد جسور التعاون مع إسرائيل علناً، باعتبار أن المشروع هو حكم العالم العربي وليس تحرير فلسطين.
المعركة كانت ولا زالت حامية بين المشروعين وغزة تدفع ثمنها الآن، ويكفي أن نتذكر الفرن الذي أحرقت فيه جثة خاشقجي وشدة الوقاحة في المساهمة في حصار غزة لنعرف إلى أي مدى وصل الأمر.
إن الذريعة الأبرز التي يقدمها النظام المصري في دوره المريب في مأساة غزة، هي أن المشروع الإخواني قد يعود إلى الإنتعاش إذا انتصرت حماس في غزة، ولذلك نقول إن غزة اليوم تدفع ثمن تعويل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين خصوصا الذي يدار من تركيا وقطر، على دعم أميركي لقلب أنظمة الحكم العربي وتسعير حرب مذهبية جديدة تفكك محور المقاومة، تحت عناوين التكفير إياها التي استخدمتها السلفية التكفيرية.
برز الأمر عندما رأينا رؤوساً في جماعة الإخوان يستخدمون منصات التواصل الإجتماعي للفصل بين المقاومة الشيعية في لبنان ومقاومة حماس، تارة بالتقليل من شأن الدعم الذي تقدمه المقاومة الإسلامية في لبنان، وتارة بإبقاء الصراع مع النظام السوري حيا، واستحضار مشاهد قديمة من هذا الصراع للقول بأن حزب الله اللبناني حرم "السنة" من حكم سوريا، ونحن نعرف اليوم أن المشروع الإخواني لو قدر له أن ينتصر لكانت سوريا اليوم تابعة لأنقرة وعمّان وتل أبيب والدوحة والرياض وفي حالة تشظي إلى إمارات سلفية متخلفة على شاكلة إدلب، تقاتل كل من يصارعها على السلطة إلا إسرائيل وأميركا.
والآن نطرح السؤال الصعب الذي يفسر تقصير إخوان تركيا والأردن ومصر مع غزة ومأساتها المروعة، وهو هل من مصلحة هذا التيار من الإخوان الذي لايزال حليفاً للولايات المتحدة الأميركية أن ينتصر تيار يحيى السنوار ومحمد الضيف الذي لا يزال متمسكا بدينه وقضيته ويرى أميركا عدوا للإسلام والمسلمين كما هي إسرائيل؟.. من المؤكد أن لهذه الجماعة حسابات أخرى، ولذلك لاحظنا تقصيرها الفاضح ومحاولة ستر هذا التقصير برمي الآخرين فيه على طريقة: رمتني بدائها وانسلت.
ولقد تسبب هذا التيار الممثل للإسلام الأطلسي بأذية غزة مرتين: مرة باستنكافه عن تجييش جمهوره بشكل يتعدى مجرد التظاهر، وبذل إمكانياته الكبيرة في خدمة غزة كما فعل في الربيع الإخواني- السلفي، ومرة بتقديم ذريعة للأنظمة العميلة بالتآمر على غزة، باعتبار أن انتصارها سيستثمر من قبل هؤلاء المتربصين الذين ينتظرون الفرصة للوصول إلى الحكم بالتحالف مع غرفتهم الخاصة في مبنى المخابرات الأميركية.
فإلى اولئك الذين يعتقدون أن أميركا ستساعدهم على الحكم، ها هي أميركا تقولها بكل وقاحة: التحرير باسم الإسلام الحقيقي ممنوع، والحكم باسم الإسلام القرآني الأصيل ممنوع، وردنا سيكون بالإبادة الجماعية، وارتكاب كل ما يتخيله العقل المريض من جرائم، فليس لهذه الأمة غنى عن التحرر من وهم التوفيق بين النفوذ الأميركي والإسلام الحقيقي، وما تقدمه اليوم تجربة اليمن الرائدة في مواجهة أعتا طغاة الأرض يشكل نموذجاً لمواجهة لا تعبأ بغير التكليف الإلهي، ولا تعمل إلا للحكم بما أنزل الله، وسلاحها الإيمان والتوكل والصبر والصمود والجهاد والعلم والعمل.
إن الإخوان المسلمين مدعوون بكافة اتجاهاتهم إلى مراجعة عميقة لتحالفاتهم، لعل الأنوار المشرقة من دماء المجاهدين في غزة اليوم تدعوهم إلى تفعيل مشاركتهم بطريقة "ملموسة" في إجهاض مشاريع الإبادة الجماعية والتهجير القسري والقضاء نهائيا على القضية الفلسطينية، وإذا نجحت أميركا في إنجاز هذا المشروع فمن المؤكد أن الإجهاز على ما تبقى فينا من الإسلام سيستمر.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا