أخبار وتقارير

خنق اليمن اقتصاديا وعزله عن البحر: منع اليمن من العلاقات الخارجية ( 7)

خنق اليمن اقتصاديا وعزله عن البحر: منع اليمن من العلاقات الخارجية ( 7)

يشير الباحث عبدالله بن عامر في نهاية الفصل الثالث من كتابه " تقسيم اليمن بصمات بريطانية " الى المخططات الاجنبية بشكل عام ومنها بريطانيا بشكل خاص

الذي كان لها اطماع ولاتزال في الموقع الحيوي والاستراتيجي الهام لليمن .. وتطرق الباحث بن عامر الى كثير من الشواهد التاريخية والوثائق التي روت فصلا من فصول التاريخ اليمني  والمقاومة اليمنية الشرسة للاحتلال البريطاني الذي سعى وعمل بشتى الوسائل الى خنق اليمن اقتصاديا ومنعه من إقامة أي علاقات خارجية .. الى التفاصيل وفق ما تضمنه الكتاب : "
اليمن حاضر في المخططات الأجنبية نظراً لأهميته من حيث موقعه وبإعتباره ايضاً سوق للمنتجات ولهذا لا غرابة أن تسعى بريطانيا إلى الاستئثار بهذه المنطقة الحيوية ومنع أي قوة أجنبية أخرى من الوصول اليها   فخلال العقد الثاني من القرن العشرين حاول كل من الفرنسيين والايطاليين التواصل بالإمام يحيى وكذلك الأمريكيون إلا أن دوراً بريطانياً محدداً ساهم في إفشال كل تلك المحاولات أو على الأقل منع اليمن من استغلال أية علاقات تربطه مع القوى الأخرى لا سيما السلاح وكذلك الجانب الاقتصادي وأية اتفاقات بشأن استخراج واستغلال الثروة ،وتشير الوثائق الأمريكية الى أن هناك إمتعاض بريطاني من أي إتفاقية مع الإمام وأن ذلك ظهر من خلال منع الإمام من الدخول الى محميتهم عدن وكذلك من خلال دعم ابن سعود وخادمه الأدريسي ،وتؤكد الوثائق كذلك أن البريطانيين عملوا على عزل الإمام يحيى وإبعاده عن عدن وقطع إتصاله بالبحر  وبشأن طلبات الإمام العسكرية لم يتجاوب معها الجانب الأمريكي تقديراً للمصالح البريطانية  إضافة الى تراجع الولايات المتحدة عن مشاريع منها تطوير ميناء الحديدة.
بعد وصول الفاشيين في إيطاليا الى السلطة 1922م تم التركيز على اليمن  الذي حاول ايضاً كسر العزلة او الحصار البريطاني من خلال عقد علاقات مع قوى أخرى غير أن البريطانيين سارعوا الى محاولات إفشال تلك العلاقات وصولاً الى الحصول على ضمانات من إيطاليا ان لا تسهم العلاقة مع الامام يحيى في تطوير اليمن لا سيما فيما يتعلق بالحصول على الأسلحة ولهذا كانت إيطاليا تزود الامام بأسلحة قديمة ورفضت تزويده بمضاد الطيران لمواجهة الغارات البريطانية ،وفي تلك الفترة شن اتباع بريطانيا في المنطقة حملة على الامام يحيى لعلاقته بإيطاليا واتهامه بإدخال الاستعمار على الجزيرة العربية!
في العام 1928م كان اليمن أول بلد عربي يوقع اتفاقية مع الاتحاد السوفياتي وقد أسهمت تلك الاتفاقية في تعزيز التبادل التجاري بين البلدين إلا أن الصحافة البريطانية سارعت إلى شن هجوم على الإمام يحيى وعلى الاتفاقية  التي توجت بمعاهدة صداقة وعبرت بريطانيا عن انزعاجها فكثفت من حملتها الجوية على اليمن في يونيو 1928م  وعلى ذكر الأسلحة فقد حصل الإمام على أسلحة من إيطاليا الا انها لم تكن فعالة فحاول الحصول على أسلحة من دول أخرى لدرجة أن البريطانيين اطلقوا عليه وصف «مجنون ذخيرة» لكثرة طلباته من الوفود الأجنبية الزائرة له بيع السلاح لليمن.  ونتيجة تقاعس الكثير من الدول عن تزويد اليمن بالأسلحة أتجه الإمام الى صناعتها محلياً مستفيداً من الإمكانيات البدائية التي تركها الأتراك والتي لم تكن تفي بالغرض فاستعان بخبراء من دول أوروبية منهم النمساوي جورج غيريشيش الذي أدار مصنع إعادة تعبئة خراطيش البنادق الفارغة وفي 1925م أفتتح مصنع آخر للذخيرة بإشراف الإيطالي رومولو كيبريسي وأستطاع اليمن بعد ذلك من الحصول على معدات حديثة للمصنع ليبدأ الإنتاج في 1928م   ولعل خشية الإمام من أطماع القوى الأجنبية هو ما دفعه إتخاذ سياسة انعزالية مكنته بحسب مؤرخين من صيانة استقلال بلاده من جهة وأعاقت من جهة أخرى التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لليمن  ولهذا تحدث صاحب كتاب اليمن من الباب الخلفي بالقول : اليمن حتى اليوم مازالت اصعب بلاد العالم على التسلل والاختراق  وتشير الوثائق الأمريكية أن الإمام بقي حذراً من مشاريع الدول الخارجية المعروضة عليه وكان مميزات اليمن في تلك الفترة مساندته للأقطار العربية ومعارضته للنفوذ الخارجي والحرص على مقاومة المؤثرات الأجنبية التي تتعارض مع الثقافة العربية الإسلامية وكان الإمام حريصاً بالمستوى نفسه على أن لا يغمض عينيه عن البحر الأحمر   

قصف واحتلال:
محاولة الإمام يحيى توحيد اليمن جعله في صراع دائم مع بريطانيا وأدواتها في المنطقة لاسيما الإدريسي وابن سعود  وخلال الحرب العالمية الأولى فرض الانجليز حصاراً على الموانئ اليمنية الامر الذي اثر على الصيادين اليمنيين إضافة الى تداعيات اقتصادية على مختلف سكان اليمن   وحاولت بريطانيا وقتها إستمالة الإمام يحيى من خلال إيقاف قصف أي ميناء يعتمد عليه الامام يحيى حتى يتم التفاهم معه   ودفعه كالادريسي الى محاربة الأتراك إلا ان البحرية البريطانية عاودت قصف الحديدة والمخا بحجة منع امدادات الجيش العثماني وفي ذات الفترة شن البريطانيون هجوماً على منطقة الشيخ سعيد  ،وخلال الحرب جرت محاولات بريطانية لاحتلال مدينة الحديدة بعد أن شنت الحربية البريطانية عمليات هجومية ضد الموانئ لاسيما الصليف  ثم باشرت قصف الحديدة تحت مبرر الإفراج عن الأسرى من الرعايا البريطانيين الذين وقعوا في أسر العثمانيين وتحت هذه الذريعة صدرت الأوامر باحتلال الحديدة لتحرير الاسرى  فوصلت عدة سفن حربية بريطانية فجراً الى الحديدة وأنزلت 300 جندي الى الشاطئ وعند الساعة السابعة فتحت السفن نيرانها وقصفت مباني شمال الحديدة أعتقدت أنها منشآت عسكرية وقصفت كذلك مبنى الجمارك ،وقاوم اليمنيون الى جانب الاتراك قوات البريطانيين وتصدوا للجنود الذين نزلوا الى الشاطئ وأرغموهم على العودة بعد إصابة العديد منهم ،شمالي المدينة وكانت عملية الإنزال عند الغروب وساد الظلام وتأجل الهجوم على المدينة ،وفي اليوم التالي غطت سفينة حربية بوابل من قذائف المدفعية عملية الإنزال وإقامة ثلاث محطات إشارة في المدينة ومع القصف المدفعي انسحب الاتراك وسيطر البريطانيون على المدينة  

المواجهة :
تعززت قوات الإمام منذ 1923م وبدأ يتوجه نحو التوسع أكثر فدفع بقوات نحو المحميات لإجبار الانجليز على رفع الحصار   ودفع بقوات أخرى نحو حضرموت الأمر الذي أثار مخاوف البريطانيين ،وقيل وقتها أن الإمام يحيى دفع بجيشه نحو الجنوب مستخدماً نفس تكتيك الانجليز فقد ضربهم في ناحية هي قريبة منه ليخرجهم من بلاد لا يصل سيفه اليها وكتب النصر للجيش اليمني وانتشر الخبر وسط هتافات الى عدن ووصلت أصداء ذلك الى لندن التي استبدلت ضباطها بعدن أرسلت الهدايا للإمام  ومع استمرار الهجمات اليمنية وسط الخشية البريطانية من اتساع دائرة التأييد الشعبي في المحميات للإمام لجأت سلطات الاحتلال الى سلاح الجو ،وقد استمرت الحرب بين الجانبين عدة أسابيع ولم يكن نجاح بريطانيا كبيراً من الناحية العملية فيما حققت قوات الإمام هزيمة ساحقة ضد قوات لحج ،وفي 1927م بعد ان تفاهمت مع إيطاليا على عدم تقديم سلاح نوعي للإمام يحيى لا سيما مضادات الطيران اعدت بريطانيا لشن حملة عسكرية جوية وتم توجيه إنذار للإمام بسحب القوات من مناطق المحميات ولهذا كان الثأر البريطاني بالغارات ،وفي البداية كان هناك خوف من تلك الغارات إلا أن الجنود وأبناء القبائل ابتكروا وسائل تقيهم من الضربات الجوية كالاختباء في شقوق الصخور .
تعرضت مناطق حدودية والضالع لقصف عنيف خلف عشرات الشهداء والجرحى ولم يكن حينها اليمنيون قد رأوا الطائرات من قبل فطلب الامام هدنة للحد من الذعر الذي أصاب الجنود والسكان وعن صمود الشعب اليمني امام الهجمة البريطانية الشرسة يقول أحد من عاصروا وشهدوا حرب 1928م وهو دبلوماسي روسي :  إن الشعب اليمني الحقيقي لم يهتز حتى عندما بدأت الغارات وسقط عشرات البشر قتلى في المناطق والقرى تمزقهم شظايا الطائرات وعن المقاتل اليمني يتحدث بالقول : الاستعداد الدائم للموت والقدرة على إصابة الهدف بدقة من مسافة بعيدة فالقبيلي يتقن استخدام البندقية منذ الطفولة وعنده مقدرة على الاكتفاء بحفنه من القمح ورغيف من الذرة للغذاء كل هذا الى جانب المستوى الرفيع من التنظيم الحربي والطبيعة الجبلية للمنطقة تجعل اليمني بالغ الصلابة في القتال الدفاعي   دعمت بريطانيا تمرد القبائل على الإمام كحاشد والزرانيق مع توتر آخر في عسير ولهذا كان الكفاح على ثلاث جبهات وهو ما اضعف قدرة التحشيد وقد انتهت الهدنة   ووسعت بريطانيا دائرة مناطق القصف لتشمل تعز واب وذمار واستمر القصف المكثف لـ 20يوماً وادى الى اضرار بالغة بالسكان حينها كان البريطانيون قد بعثوا بمندوب لهم الى صنعاء الا ان ذلك المندوب لم يكن مرغوباً به أو هكذا تحدث راغب بك احد معاوني الامام  للروس الذين كانوا في صنعاء حينها حيث قال: إن البريطانيين طلبوا إخلاء المناطق المتنازع عليها وشنوا غارات 1928م بهدف الضغط المعنوي الشديد لكن اليمنيين لم يخرجوا وانما نصحو المبعوث الإنجليزي جاكوب بسرعة الرحيل من صنعاء مطروداً فبدأ الأسد الإنجليزي يغضب بشدة فأرسل لليمنيين شرطاً لإخلاء تلك المناطق قبل أي مباحثات قادمة وانتهت مدة الإنذار القانوني وقتها كان الإمام يسافر إلى المصيف الى منطقة وادي ظهر   ألقت الطائرات البريطانية مناشير تعهدت بها بعدم قصف المناطق التي يرفض أهاليها من الشافعية تأييد الزيدية وأن الزيدية وحدهم المسؤولون عن القصف الذي لا غرض له سوى الدفاع عن القبائل الجنوبية الخاضعة للحماية البريطانية  وفي يوليو 1928م جرى الانسحاب اليمني من المحميات منها الضالع ولم تقدم إيطاليا الدعم للإمام.
في يوليو 1928م انيطت مهمة الدفاع عن عدن لوزارة الطيران الأمر الذي فرض على اليمنيين ضرورة تعزيز القوة العسكرية ولهذا يقول ج انكارين : قد تطلب هذا الصراع من الإمام وأعوانه ليس الشجاعة الشخصية فقط ،بل المهارات القتالية والتنظيمية وهاهم الناس الذين لم يروا البحر قط والذين أستشفوا كل ثقافتهم من القرآن والسنة بدأوا على عجل يسلحون أنفسهم وبإستخدام المخلفات المادية والبشرية للإرث التركي وأكملوا تشكيل الجيش النظامي الذي بدأوه في زمن الحرب وشرعوا في بناء الصناعة وشق الطرقات وإمتلاك الطائرات   وحينها لم تكن المواجهة لصالح البريطانيين بنسبة 100% بل كان هناك خسائر في صفوفهم  

حرب على جبهتين:
في العام 1929م استؤنفت الاتصالات بين صنعاء والبريطانيين الذين اعادوا طرح مسودة اتفاقية للتوقيع عليها من قبل الجانبين وأرسلت المسودة مع احد ممثلي الشركات البريطانية وسمي ذلك بـ «مشروع كراوفورد» الا ان المشروع فشل بسبب إصرار الامام على ان اليمن يشمل المحميات والجزر الخاضعة للاحتلال البريطاني ،وفي 1931م رأى المقيم رايلي الذي عين مجدداً في عدن أن تواجد القوات الجوية من خلال الطيران في عدن هو الضمان الوحيد للنفوذ البريطاني وان توقيع اية اتفاقية مع الامام قد يعمل على تقييد بريطانيا من استخدام القوة  ورغم ذلك أرسلت بريطانيا ما سمي بوثيقة النصيحة تضمنت شروط عقد إتفاقية منها الانسحاب من الأراضي المحتلة في مايو 1932م لكن الامام اغلق التجارة  وفي 1933م شن اليمنيون أخطر هجوم على البريطانيين جنوباً عبر منطقة الصبيحة وصولاً إلى الساحل الجنوبي  فلم يأت العام 1934م إلا واليمن بين فكي كماشة الإنجليز من الجنوب وابن سعود من الشمال  في وقت اعتبر فيه البريطانيون نظام ابن سعود هو أفضل ما يخدم مصالحهم  وكان لابد من تجاوز هذا الوضع الذي يشكل خطورة على مركز الدولة اليمنية المستقلة وقتها في ظل إدراك صنعاء أن التحالف مع إيطاليا لم يؤد إلى النتائج المرجوة وقد أدى التوتر مع السعودية والخشية من الاطماع الإيطالية الى التفاوض مع البريطانيين  ناهيك عن المؤامرات الداخلية التي يغذيها الانجليز  الذين استغلوا خلافات اليمن مع السعودية  للخضوع لكافة الشروط المطروحة من قبلهم غير أن الإمام  الذي كان يتعرض للضغط السعودي لم يفرط بالأرض اليمنية وقرر تأجيل البت في الحدود والمحميات الى ما بعد أربعين سنة. وكان أحد المسؤولين البريطانيين قد أكد أن الأئمة «كانوا ينظرون إلينا كمتطفلين ولم يتوقفوا عن الكفاح لمد سلطتهم إلى المحميات إلا لفترة قصيرة بعد توقيع معاهدة صنعاء»  وبالتالي اعتبر البريطانيون ما حدث بأنه نصر كبير استحق على ضوئه الكولونيل برنارد صفة فارس   ورغم التوصل الى إتفاق كان هناك تشجيع بريطاني لابن سعود للتحشيد للحرب وبذلك أصبحت الاتفاقية مع البريطانيين سبباً من أسباب التوتر بين اليمن والسعودية   فلم تكن اتفاقية صنعاء إلا بعد أن كان ابن سعود قد استكمل تجهيزاته لشن الحرب  وتأكيداً للتآمر البريطاني حتى بعد توقيع الاتفاقية فقد اشعرت بريطانيا بن سعود بأن معاهدتها مع اليمن لا تعني إضعاف علاقاتها وروابطها بالمملكة  وكان ذلك بمثابة ضوء أخضر على شن الحرب على اليمن 1934م.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا