كتابات | آراء

الساحل الغربي ملتقى الأطماع الاستعمارية « الحلقة 44 »

الساحل الغربي ملتقى الأطماع الاستعمارية « الحلقة 44 »

لقد بدأ النشاط الفرنسي المنافس للبريطانيين في منطقة البحر الأحمر يظهر بصورة فعلية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد أن خفت حدة هذا الصراع في الفترة التي سبقت ذلك التاريخ , والذي كان مسرحه الرئيسي مصر , وفي هذه الفترة , وبعد احتلال البريطانيين لعدن عام 1839م أنتقل هذا الصراع إلى مسرح آخر ,

و سواحل إفريقيا الشرقية لاسيما المناطق المطلة على ساحل البحر الأحمر, واتجهت  الأنظار نحو سو حل الصومال وسواحل الدناكل , وأبعد من ذلك إلى داخل الهضبة الحبشية , وبحكم وجود البريطانيين في عدن اتجهت أنظارهم إلى الساحل الإفريقي  المقابل لعدن ولاعتقادهم التام بأن سيطرتهم على تلك المناطق من محمياتهم الموجودة في عدن , وبالطبع إن هذا يكفل لبريطانيا الحماية المطلوبة لطريق البحر الأحمر الملاحي والسيطرة التامة عليه , ولقد كان البريطانيون دائمي التوجس من ظهور أي نشاط فرنسي , والذي ما لبث أن لاح في الأفق ليشكل تهديداً للمصالح البريطانية في منطقة البحر الأحمر , وقبل أن تدخل في تفاصيل هذ الصراع يجب أن نستعرض سريعاً الخطوات الأولى لهاتين الدولتين , والتي كانت تتمثل في البعثات والرحلات الاستكشافية لدراسة المنطقة والمواقع الاستراتيجية فيها كمقدمة للاستيلاء عليها .
المحاولات البريطانية الأولى في البحر الأحمر :  
إن بداية العلاقات البريطانية بهذا الساحل ترجع إلى عام 1827م , وذلك عندما أرسل مبعوث بريطانيا إلى قبيلة حبر أول للتفاهم معها على دفع تعويض بعد أن نهب أفراد هذه القبيلة سفينة بريطانية تجارية من بربره , وعقد كبار رجال هذه القبيلة اتفاقية للسلام والتجارة مع بريطانيا في فبراير من نفس العام , وتعهدوا بموجب هذه الاتفاقية على عدم نهب السفن التي ترفع العلم البريطاني , ومقابل ذلك تجد سفن شيوخ القبيلة نفس المعاملة في الموانئ البريطانية , بالإضافة إلى دفع تعويض عن خسائر السفينة البريطانية المعنية .
واستمرت المحاولات البريطانية في تلك السواحل ففي عام 1840م وصل الكابتن مورسبي إلى تا جوره , وعقد معاهدة للصداقة والتجارة ممثلاً لشركة الهند الشرقية الإنجليزية مع السلطان محمد بن محمود حاكم تاجورة تعهد فيها بنقل المحاصيل من الأراضي الداخلية إلى الساحل, وتعهدت شركة الهند الشرقية مقابل ذلك بتشجيع التجارة في تا جورة .. وقد نصت المادة السابعة من هذه المعاهدة على أن لا يدخل حاكم تاجورة في أية علاقات سياسية أو تجارية مع قوى أوربية أو أية قوة أخرى إذا كانت هذه العلاقة تمس المصالح البريطانية دون الرجوع إلى شركة الهند الشرقية مقابل تعهد الشركة بعدم القيام بأي عمل عدائي ضد إقليم تاجورة كما نصت هذه المعاهدة على موافقة سلطان تاجورة على بيع جزر موسى للحكومة البريطانية ويتكون أرخبيل موسى من ثلاث جزر كبيرة نسبياً وخمس جزر صغيرة , تفتقر إلى المياه اللازمة للشرب , ولكنها من ناحية أخرى صالحة لرسو السفن ويقول مارستون في كتابه ( الدور الإمبراطوري في البحر الأحمر): تكمن أهمية هذه المنطقة بالنسبة لبريطانيا في أن ميناء تاجورة يقع في نهاية الطريق الثاني الذي يربط أغنى المناطق في الحبشة كفوندار وتغري بالساحل بالإضافة إلى أن هذه الجزيرة بموانئها تمتاز بموقعها الاستراتيجي المتحكم في مدخل البحر الأحمر , ومما يهدد الوجود البريطاني في المنطقة إذا ما وقعت هذه المنطقة تحت سيطرة دولة أخرى منافسة, ورغم أن البريطانيين قد أشتروا هذا الأرخبيل إلا أنهم لم يقوموا باحتلال تلك الجزر فعلياً , بل تركوها مهملة واحتفظوا افقط بحقوقهم فيها.. ومع نهاية عام 1854م نظمت بعثة بريطانية بإشراف حكومة الهند البريطانية لغرض كشف المنطقة بين بربرة وزنجبار وعينت لقيادة هذه البعثة الملازم بورتون من جيش بومباي بمساعدة الملازمين هرن , وسترويان وسبيك على أن تتحرك هذه البعثة من عدن , ولقد قرر قائد البعثة أن يجعل من بربرة قاعده لتحركاته باتجاه الغرب إلى هرر , وباتجاه الجنوب الشرقي في نحو زنجبار , والجدير بالذكر أن بورتون أول أوربي يصل إلى أرض هرر.. إلا أن هذه البعثة تعرضت لهجوم من قبل جماعة من الصوماليين من قبائل العيسي مما أدا إلى مقتل سترويان وأسر سبيك بعد إصابته إلا أنه تمكن من الهرب كما أصيب الملازم بورتون قائد الفرقة اصابة بالغة , وأما هران فقد كان هوالوحيد الذي لم يُصب بأذى وتمكن أعضاء الفرقة بعد ذلك من الهرب إلى عدن على ظهر قارب صغير ولقد طلبت السطات البريطانية من قبيلة حبر أول تسليم ومعاقبة مدبري الحادث ويقول بورتون إن ذلك لم يكن ممكناً فقد تعلل شيوخ تاجورة كالعادة بأن المهاجمين قد توغلوا إلى الداخل , واصبح من الصعب اللحاق بهم وكانت القوات البريطانية قد حاصرت ميناء بربرة إلا أنها انسحبت عقب أن دفع الصوماليون مبلغ 15ألف دولار كتعويض , وتعهدوا بالمحافظة على حرية التجارة في بلادهم , وتوقفت بريطانيا في هذه المرحلة من علاقاتها بهذه السواحل , وأكتفت بعقد تلك المعاهدات مع القبائل الصومالية للمحافظة على المصالح البريطانية , ولم تحاول بريطانيا التوسع الفعلي في تلك المنطقة لأن الظروف القائمة لم تكن تستدعي ذلك  إلا أن المحاولات الفرنسية للتوسع في أراضي الصومال أجبرت بريطانيا على تغيير استراتيجيتها والتصدي لتلك الأطماع الفرنسية .. وقبل أن نتحدث عن المحاولات الفرنسية المبكرة في تلك المنطقة أود أن أوضح موقف  بريطانيا وسياستها الأولى التي أفصحت عنها قبل ذلك التاريخ أي عام 1848م وذلك عندما استولى شارماركي على مدينة زيلع وشارماركي عام 1843م هذا كان من كبار شيوخ المنطقة ذوي النفوذ القوي وهو صديق للإنجليز ولقد قام شارماركي عقب ذلك بزيارة عدن وعرض على هينز المقيم السياسي البريطاني في عدن رغبته أن يضع زيلع تحت الحماية البريطانية , وقام هينز بعرض هذه المقترحات على حكومة الهند البريطانية , والتي كان ردها على ذلك في أكتوبر من نفس العام كالآتي :
أولاً : عدم التدخل في الشؤون الداخلية , والمنازعات القائمة حينذاك بين شيوخ وحكام منطقة الساحل الإفريقي للبحر الأحمر .
ثانياً : التركيز على استمرار العلاقات التجارية مع حكام منطقة الساحل والعمل على تنميتها .
ثالثاً :  عدم إقحام حكومة الهند البريطانية في النزاعات القائمة بين الشيوخ وحكام منطقة الساحل الإفريقي بجرها إلى تدخلات أخرى غير مريحة ومكلفة , بل قد تسيء غاية الإساءة للمصالح البريطانية.
رابعاً: إن تدخل الحكومة في مثل هذه الخلافات قد تنتشر أخباره , ويبالغ في تقديرها لدى الدوائر السياسية الأوروبية الأمر الذي يثير غيرة الحكومات الأوربية بين المنافسة وحقدها على الحكومة البريطانية.
خامساً :  أن الوجود البريطاني في عدن يعني ضمان مخزن ومحطة الفحم في موقع متوسط بين بومباي والسويس وليس التدخل أو التوسع فيما ورى عدن .
سادساً إن حكومة الهند البريطانية تفضل علاقات صادقة بينهما وبين حكام منطقة البحر الأحمر , ولكنها تأسف إذا ما اضطرت إلى اتخاذ إجراءات عنيفة من أجل حماية مصالحها في تلك المنطقة بصورة خاصة , وفي منطقة البحر العربي والخليج العربي بصورة عامة.. إن هذه الخطوط العريضة لسياسة حكومة الهند البريطانية لم تلبث أن تغيرت نتيجة لتغيرات الأوضاع في المنطقة وتطورها لاسيما فيما يتعلق بالفقرة خامساً كما سنرى في حلقاتنا القادمة بإذن لله سبحانه وتعالى.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا