أخبار وتقارير

3 وثائق بريطانية تحث على احتلال تعز والحديدة (3)

3 وثائق بريطانية تحث على احتلال تعز والحديدة (3)

تعتبر مذكرات وتقارير (الكولونيل هارولد جاكوب) المساعد الأول للمقيم السياسي البريطاني في عدن والتي كتبها خلال الحرب العالمية الأولى من أخطر المذكرات والتي هي إلى اليوم من ترسم السياسة الاستعمارية البريطانية في اليمن كونها وضعت اللبنة الأولى لتدعيم النفوذ البريطاني في عدن ومنطقة البحر الأحمر,

ورأي ضرورة التوسع البريطاني نحو حضرموت وحذرت من تمدد صنعاء نحوها ونحو موانئ البحر الأحمر بعد رحيل العثمانيين من اليمن، ورأى ضرورة دعم الادريسي في عسير واحتلال ميناء الحديدة, وقبل ذلك مد سكة حديدية وربط عدن بلحج وتعز, والعمل على تقسيم اليمن واستمالة القبائل اليمنية ورؤسائها وتجنيد جنود يمنيين كمرتزقة يعملون تحت إمرة القيادة البريطانية في عدن.

علي الشراعي

السياسية الاستعمارية
حينما تلبدت في الأفق غيوم الحرب العالمية الأولى في سنة 1914م, زادت أهمية الجزيرة العربية بشكل عام واليمن بشكل خاص من وجهة نظر المصالح البريطانية بطبيعة الحال, وبالتالي أصبحت تقارير الممثلين البريطانيين فيها أكثر أهمية وأغزر مادة, وأصبحوا يوافون حكومتهم بتقارير متواصلة عن أعمالهم واتصالاتهم ومقابلاتهم وما يحصلون عليه من معلومات وما يصلهم من اخبار وإشاعات، وكانت هذه التقارير تدرس في مراجعها بدقة وتناقش ويستفاد منها في رسم سياسة بريطانية في تلك المناطق.
لدى جاكوب العديد من المذكرات التي كتبها مع بداية الحرب العالمية الاولى، فالمذكرة الأولى مؤرخة في 8 سبتمبر 1915م, وتدور حول قيام الايطاليين في مقديشو بتجنيد عساكر من اليمن, أما المذكرة الثانية فهي مؤرخة في 9 سبتمبر 1915م, وتدور حول خطة البريطانيين السياسية في المنطقة المحيطة بعدن، ومذكرة ثالثه كتبها في يناير 1916م, تخص زيارته لمحمد الإدريسي في عسير لتوطيد العلاقة بين بريطانيا ومحمد الإدريسي أما عن التقرير الرابع كتبه في 10 مايو 1916م, وأرفق مع خطابات وتقارير أخرى إلى سكرتير حكومة بومباي، (الخطة السياسية في منطقتنا الخلفية) أي ما وراء المحميات والقري المحلية الأخرى.

جنود مرتزقة
ففي مذكرته الأولى اشار جاكوب والتي دارت حول قيام الايطاليين في مقديشو بتجنيد عساكر من اليمن, بإنه قابل (الكولونيل بودرير) في اليوم الرابع من سبتمبر سنة 1915م, وهو ضابط ايطالي يعمل في مكتب المستعمرات الايطالي ويقوم بتدريب الجنود اليمنيين الذين سمح له البريطانيون بتجنيدهم, وكان يختارهم من محمية عدن فضلا عن المنطقة التي يحتلها الترك في اليمن، وكان الايطاليون يجندون رجال القبائل اليمنية الذين يختارونهم من المنطقة التي يحتلها الترك في اليمن منذ وقت بعيد وإن كانت تلك العملية قد توقفت مؤقتا اثناء الحرب الايطالية- العثمانية خلال عامي 1911- 1912م, بعد هجوم ايطاليا على طرابلس الغرب ليبيا, ورغم إن الايطاليين كلفوا هؤلاء اليمنيين المجندين بالعمل في مستعمرة اريتريا وفي الصومال الايطالي غير انهم أرسلوها ايضا إلى طرابلس الغرب (ليبيا) حيث قاتلوا بكفاءة ضد الاتراك والسنوسيين خلال احتلال ايطاليا لليبيا.
وقد أكد (بودريرو) لجاكوب إن المقاتلين اليمنيين الذين قام بتجنيدهم يفوقون في كفاءتهم القتالية زملاءهم الاحباش، وقد قام الايطاليون بتجنيد ستة آلاف مقاتل يمني, واكد جاكوب أن الضابط الايطالي (بودريرو) ابدى دهشته من عدم قيام البريطانيين بتجنيد مقاتلين محليين في عدن، وكان الايطاليون في مقديشو كما يصف (جاكوب) يمنحون كل مجند من هؤلاء 12 روبية لا غير يشترون منها ملابسهم ولا يحصلون على وجبات غذائية إلا إذا توغلوا في داخل البلاد حيث كانوا يعملون في ازالة الغابات لشق الطرق، وكان يسمح لهم بالعودة إلى أوطانهم بعد عامين من الخدمة العسكرية، أما من يؤثرون منهم البقاء هناك فكان يسمح لهم بالأشتغال بالتجارة على انهم كانوا معرضين للاستدعاء للالتحاق بالقوات الاحتياطية الايطالية على أن يمنح كل منهم في تلك الحالة ثلاث روبيات، وكان المجندون العرب (اليمنيين) يتزوجون من نساء القبائل الصومالية نظرا لأنه كان محتما عليهم إن يتركوا زوجاتهم في الجزيرة العربية.

محاربون مهرة
وقد استفسر جاكوب من بعض اليمنيين الذين جندهم الايطاليون عن سبب ذهابهم للعمل بعيدا في مقديشو, فأجابوه لأن البريطانيين لم يطلبوا منهم ذلك وهو في حاجة للحصول على أقواتهم، ولهذا اقترح جاكوب اختيار مائتين إلى ثلاثمائة رجل على سبيل التجربة, وقال إن رجال القبائل يتميزون بأنهم محاربون مهرة وإن استخدامهم كمقاتلين يسرهم كثيرا ويرضيهم ايضا, وأبدى ثقته في إن هؤلاء سينضمون جماعات تحت اللواء البريطاني.
وقال جاكوب في مذكرته أنه قد أورد تلك المقتطفات من حديثه مع الضابط الايطالي (بودريرو) ليؤكد ما أوضحته التقارير السابقة عن الطريقة الماكرة التي كانت تتبعها ايطاليا في نشر نفوذها في شبه الجزيرة العربية وعلى الساحل الشرقي للبحر الأحمر بوجه خاص، وكان اسلوبهم يقوم على (طلينة) العديد من العرب تدريجيا في تلك المناطق، ولا يخفى أنهم قاموا منذ أعوام قليلة خلت بالتعامل مباشرة مع سلطان الشحر والمكلا لكي ينشئوا جهازا للبرق في مدينة المكلا، وقد أكد أحد قضاة تلك المدينة لجاكوب أن الطليان كانوا يفتشون المراكب الشراعية التي تحمل اعلاما عربية بحجة إنها سفن عثمانية خلال حرب طرابلس الغرب بين ايطاليا والعثمانيين، ومنوها بذلك انه لا توجد سيادة وسيطرة لليمن معترف بها في حضرموت آنذاك.
وفيما يخص البحر الأحمر رأى جاكوب إن الايطاليين كانوا يهدفون إلى بسط نفوذهم على سواحل اليمن المطلة على البحر الأحمر والمواجهة لمستعمراتهم اريتريا على الساحل الافريقي
ولذلك اقترح على حكومته تدعيم النفوذ البريطاني في عدن ومنطقة البحر الأحمر حتى يمكن مواجهة الأطماع الايطالية، وقال جاكوب أن فكرة استقلال شبه الجزيرة العربية بما فيها اليمن يمكن أن تسبب متاعب كثيرة للبريطانيين في عدن وللمصالح البريطانية في منطقة البحر الأحمر بوجه عام.

موانئ الساحل
اما المذكرة الثانية لجاكوب المؤرخة في 9 سبتمبر 1915م فقد تناولت عرضا للخطة السياسية للبريطانيين في عدن والخاصة بالمناطق المحيطة بها في جنوب اليمن أثناء الحرب العالمية الأولى، فقد ذكر انه في حالة انسحاب الاتراك العثمانيين من اليمن فإن الوجه السياسي للمنطقة المحيطة بعدن سوف يتغير حتما تغيرا جذريا،اذ إن إمام صنعاء سوف ينقل مركز قيادته إلى الجنوب وتنشأ مصادمات بينه وبين نفوذ البريطانيين في عدن وما حولها وقد استاء الإمام يحيى كثيرا من قصف البريطانيين مع بداية الحرب لمنطقة الشيخ سعيد المقابلة لمضيق باب المندب على الساحل اليمني وإنه كان يطمع في أن يستعيد حكمه وسيطرته على تلك المنطقة وقد يحاول الإمام أن يستقطب إلى جانبه رؤساء القبائل المحيطة بعدن على وجه الخصوص بعد رحيل العثمانيين وسوف ينحاز هؤلاء إلى جانب الإمام يحيى إذا رأوا البريطانيين ملتزمين الصمت.
اوضح جاكوب إن منطقة ماوية منطقة خصبة وغنية شأنها في ذلك شأن الحجرية التي كان يسودها نفوذ الشيخ محمد بن ناصر مقبل بل أن نفوذه كان يمتد أيضا إلى مرفأ الشيخ سعيد وكان الإمام يحيى يتطلع إلى بسط نفوذه على كل هذه المناطق، وتحدث عن أهمية انشاء خط للسكك الحديدية في المنطقة المحيطة بعدن في جنوب اليمن وخاصة ما بين عدن ولحج، من ناحية تسهيل المواد الغذائية إلى عدن وربطها بالمناطق الداخلية، فضلا عن إن أي مشروع لتزويد عدن بالمياه من تلك المناطق لن يتحقق له النجاح إلا بإنشاء هذا الخط الحديدي، بل إن أهمية هذا الخط من الناحية الاستراتيجية إذ لو كانت لدى البريطانيين في عدن طرق ممهدة إلى لحج أو خط حديدي لتفادي البريطانيين الانهيار الذي حدث للحج بسيطرة الاتراك عليها في سنة 1915م، فإن وجود المستعمرات العثمانية على مقربة من المناطق المحيطة بعدن كان له أسوأ الأثر على الحامية البريطانية المعسكرة في عدن نفسها، كما إن مشروع اقامة مستشفى أو مصحة للبريطانيين في المناطق المرتفعة في الداخل كان يمكن نجاحها إذا ما أنشئ خط للسكك الحديدية بين عدن وتلك المناطق.
ونوه ان البريطانيين اوضحوا في معاهداتهم التي عقدوها مع الادريسى انهم لا يرغبون في ضم أراضي جديدة إلى منطقة نفوذهم في جنوب غرب اليمن ولكنه أوضح ان انتهاك الاتراك لحرمة الأراضي الخاضعة للحماية البريطانية وخاصة منطقة لحج القريبة من عدن يفرض على البريطانيين ضرورة اجراء بعض التعديلات في سياستهم وبالتالي في اتفاقياتهم السابقة.
وقال: في مذكرته إن ممثل الإدريسي قد استفسر من المقيم السياسي البريطاني في عدن عن الأسباب التي تحول دون استيلاء البريطانيين على منطقة الشيخ سعيد ومينائي المخا والحديدة مما سوف يقوى كفاحنا المشترك على حد تعبيره, خاصة وإن الإدريسي نفسه لن يعترض على ذلك نظرا لأن تلك المناطق والموانئ كانت في حوزة الأتراك من جهة, كما إن إمام صنعاء يعتبر نفسه الوريث الشرعي لليمن بأكمله من جهة أخرى، وقد قدم جاكوب في مذكرته عدة اقتراحات لتدعيم نفوذ البريطانيين في عدن والمنطقة المحيطة بها، فقد طلب زيادة المشاهرات التي تدفع لشيوخ القبائل لضمان استمرار ولائهم للبريطانيين هناك.

مدرسة بريطانية
كما ابدى جاكوب في مذكرته اقتراحا سبق أن قدمه من قبل في سنة 1906م, غير أنه لم يلق اهتماما حينذاك وهو إنشاء مدرسة لأبناء السلاطين والأمراء وشيوخ القبائل المحيطة بعدن على أن تنشر بينهم المُثل البريطانية بذكاء بحيث يدينون بالولاء لبريطانيا منذ نعومة أظافرهم، وقال جاكوب مستندا إلى مثال يمني (إنه طالما ألقيت البذرة فإنها ستنمو)، وأضاف إلى ذلك قوله إن شبه الجزيرة العربية- قصد بها شمال اليمن آنذاك بعد خروج العثمانيين وايضا حضرموت كونها كانت لا تخضع للاحتلال البريطاني في عدن مباشرة أو للسيطرة العثمانية أو لحكومة صنعاء بعد خروج العثمانيين وكانه ينبه حكومته بأهمية تلك المناطق سواء في حضرموت او في سواحل اليمن الجنوبية الغربية على البحر الأحمر- لن تبقى مستقلة وإن ثمة قوة أوروبية لابد وأن تسيطر عليها ولهذا فقد أوضح إن هذه القوة ينبغي أن تكون قوة البريطانيين التي أعجب الكثيرون من حكام المنطقة بسياستهم وأساليب ادارتهم المتمثلة في عدن بطبيعة الحال.
كما أوصى جاكوب في مذكرته بضرورة إيفاد بعثات طبية بريطانية إلى عدن والمنطقة المحيطة بها والتي تحدث آثارا طيبة في اجتذاب سكان المنطقة إلى جانب البريطانيين، وذكر جاكوب إن ارسال البعثات الطبية كان له أطيب الأثر في بلاد الهند وإنه يمكن تنفيذ ذلك في المنطقة المحيطة بعدن، مشيرا أن الدكتور (هاربور) أحد أعضاء (جمعية التبشير الكنسية) قد افتتح عيادة طبية في الضالع شمالي عدن، غير إن سلطات عدن استدعته من هناك حرصا عليه من عدوان الأتراك وكان أمير الضالع، كما اشار جاكوب ايضا إلى أن بعض الأطباء قد عملوا في عدن والمناطق المحيطة بها، والذين كانت أعمالهم الإنسانية- بحسب وصفه- ذات تأثير بالغ في نشر ( الرنين ) البريطاني في المنطقة.

أهمية حضرموت
أوضح جاكوب في مذكرته إن لدى البريطانيين في عدن مجال هام للغاية للعمل على نشر النفوذ البريطاني في البحر الأحمر وخليج عدن، وتساءل عن سبب عدم قيام البريطانيين بزيارة سواحل حضرموت خاصة وإن تلك المنطقة كانت مطمحا للباب العالي- العثمانيين- وللإمام يحيى في الآونة الأخيرة حينذاك في سبتمبر 1915م، كما إن نشاطهما قد ظهرت بوادره في حضرموت، فقد تحرك حوالي أربعة آلاف زيدي بأسلحتهم عن طريق بيحان قاصدين حضرموت، في حين طلب سلطان المكلا السير غالب من عدن إمداده بالأسلحة وبزيارة إحدى السفن البريطانية إلى ميناء المكلا، واكد جاكوب- مستخدما امثلة عربية- (إن عقل العربي يستقر في بصره) ولهذا فهو لا يستطيع أن يدرك وجود دولة ليست حاضرة أمام بصره, مما يحتم على البريطانيين ضرورة تأكيد وجودهم في تلك المنطقة- حضرموت-، خاصة إلى احتمال توافر امكانات هائلة على ساحل حضرموت في التعدين والنفط فضلا عن أهميتها التجارية والتي يجب أن تدفع البريطانيين إلى العمل، وقال جاكوب إن المقيم السياسي البريطاني في عدن متنبه لهذه الأمور وإنه حاول زيارة حضرموت غير إن زيارته أرجئت للضرورة أثناء الحرب القائمة حينذاك ويقصد بها الحرب العالمية الأولى، واقترح جاكوب تعيين وكيل بريطاني في المكلا للاستفادة من امكانات حضرموت على أن تقوم بريطانيا بتدعيم قوة القعيطي واستقطابه إلى جانبها، بل أنه طالب حكومته بضرورة تدعيم القوات البريطانية الموجودة في اليمن حتى تقوم بدورها بكفاءة عالية في عدن والمنطقة المحيطة بها التي ستصبح مطمعا للدول الأوروبية المنافسة لبريطانيا.

ميناء الحديدة
أما عن التقرير الذى كتبه جاكوب المساعد الأول للمقيم السياسي البريطاني في عدن في 10 مايو 1916م, وأرفق مع خطابات وتقرير أخرى إلى سكرتير حكومة بومباي، فقد تحدث فيه جاكوب عن سياسة البريطانيين في المنطقة المحيطة بعدن، فقد عبر عن توقعاته عما سيسفر عنه الموقف في اليمن بعد جلاء الاتراك فثمة فوران سيحدث في اليمن نتيجة للصراع الذي سينشب حول الأراضي التي كان العثمانيين يحتلونها، خاصة وأن خطوط الحدود التي تم التوصل إليها مع الترك لم يتم الاتفاق بشأنها مع العرب (اليمنيين) الذين لم يعترفوا بها، ولهذا أوصى جاكوب بالحرص على ابقاء الإمام يحيى مسيطرا على منطقة نفوذه في شمالي المرتفعات اليمنية حتى يرحل الترك عن البلاد، وبالرغم أن جاكوب لم يوص حكومته باحتلال المناطق المحيطة بعدن عن طريق القوة، ولكنه أبدى تفضيله لتعيين وكيل بريطاني في تلك المناطق يباشر حقوقا سياسية يتم التوصل إليها عن طريق الاتفاقات والأساليب الدبلوماسية، واقترح بمد خط حديدي يصل ما بين عدن جنوبا وتعز شمالا، كما اقترح إنشاء مدرسة لأبناء السلاطين ورؤساء القبائل، رأى جاكوب إنه إذا انضمت تعز إلى منطقة نفوذ بريطانيا في جنوب اليمن فينبغي أن يكون هناك حاكما معاديا للزيود حتى لا تخضع تلك المنطقة للإمام يحيى الذي يمكن أن يسبب بعض المتاعب للبريطانيين في عدن إذا تضخمت قوته وطالب بحقوقه الشرعية على المنطقة بأكملها.
وأكد أن البريطانيين إذا لم يقوموا بطرد الترك من لحج فإن القبائل اليمنية ستتردد كثيرا قبل القيام بأية أعمال عدوانية ضد الترك لطردهم من بلادهم، لذلك طالب جاكوب بتعديل بعض المعاهدات مع السلاطين والامراء المجاورين لعدن بالدرجة التي تدعم موقفهم في مواجهة الاتراك والتصدي لهم لإخراجهم من البلاد، ورغم معارضة جاكوب في تقريره لسياسة ضم مناطق جديدة لتكون تحت الاشراف المباشر للبريطانيين في عدن نظرا لأن تلك السياسة تثير استياء اليمنيين وحكامهم, واقترح فكرة أخرى تقوم على مد النفوذ البريطاني إلى هذه الجهات دون احتلالها ووضع قادة موالين هناك, وستكون الخطوط الحديدية إلى تعز بادرة كبيرة لمد النفوذ هناك، فإنه قد استثنى من ذلك ميناء الحديدة الذى أوصى حكومته بالسيطرة عليه ليكون أداة للمساومة مع إمام صنعاء لتأمين الوجود البريطاني في عدن بعد جلاء العثمانيين عن اليمن والاستفادة منه ليشكل مع عدن والمكلا موانئ هامة تحقق المصالح البريطانية في التحكم بداخل الامدادات إلى الداخل من هذه الموانئ.

بريطانيا وعسير
حينما أقدمت ايطاليا عام 1911م على قصف ميناء الحديدة وايضا منطقة جبل الشيخ سعيد المطل على مضيق باب المندب ومد علاقتها السياسية مع الادريسي في عسير فقد تطلعت إلى الوثوب على موانئ عسير وبقية موانئ اليمن لبسط نفوذها هناك، وقد ذكر جاكوب مساعد المقيم السياسي البريطاني في عدن أن كاتبا ألمانيا قد عبر عن هذه الرغبات الايطالية في عام 1913م , بقوله: (منذ قرن مضى استطاع الانجليز أن يجعلوا أنفسهم أسيادا في عدن.. والأن ترمى إيطاليا نظراتها المتطلعة إلى شاطئ العربية الأخضر).
لذلك فتتبع تطور العلاقات بين البريطانيين في عدن ومحمد الادريسي في عسير أثناء الحرب العالمية الأولى من خلال الخطاب المرسل من (البريجادير جنرال برايس) المقيم السياسي البريطاني في عدن إلى سكرتير حكومة بومباي في 27 يناير 1916م, والذي يشير فيه إلى زيارة الكولونيل جاكوب لمحمد الإدريسي في عسير، وقد تمت هذه الزيارة في اليوم السادس من الشهر المذكور ورافق جاكوب فيها عدد من ضباط عدن، وقد أبدى برايس في ختام خطابه تقديره البالغ (للكولونيل جاكوب) مساعد المقيم السياسي البريطاني في عدن نظرا لمقدرته الفائقة وبراعته النادرة في تنفيذ مهمته لتوطيد العلاقات بين البريطانيين في عدن والإدريسي في عسير، خاصة وأن جاكوب كانت له خبرة ودراية بشؤون المنطقة فضلا عن اتقانه للغة العربية مما ساعده كثيرا في ادارة حوار مفيد أدي إلى نجاح مهمته.
أما عن التقرير الذي وضعه جاكوب والخاص بزيارته للإدريسي في يناير 1916م, فقد أوضح فيه إن الادريسي حرص على عدم اظهار علاقته مع البريطانيين والايطاليين لشعبه حتى لا يتأثر مركزه الديني لدى اتباعه نتيجة لاتصاله وتحالفه مع غير المسلمين، وطالب الإدريسي تشديد الحراسة من قبل السفن البريطانية في البحر الأحمر لوقف عمليات التهريب المحتملة للبضائع والمؤن للموانئ التابعة للعثمانيين سواء في الحجاز او في اليمن موانئ (اللحية والحديدة والمخا)، وبالنسبة لاحتمال استخدام جزر فرسان كمخبأ للسفن التركية المعادية فقد اكد الادريسي بأن هذا مستبعد لأن هذه الجزر لا ترسو بها سوى قوارب صيد اللؤلؤ التابعة له.
واكد الادريسي لجاكوب حرصه على عدم ارسال أية مؤن أو ذخائر إلى الأتراك عبر بلاده, وأنه تقع على زوارق الحراسة البريطانية في البحر الأحمر مسؤولية مراقبة السواحل للحيلولة دون وصول أية تموينات إليهم، وأوضح جاكوب أن الادريسي كان واثقا من أن الحلفاء سينتصرون في المدى الطويل, ولكنه كان يخشى أن يعقد صلح يترك الأتراك مسيطرين على الممتلكات التي كانوا يحتلونها في شبه اليمن.

صناعة العملاء
إن دور الإدريسي على الحدود المباشرة بين عسير والحجاز بأنه يحتجز قوات العدو (العثمانيين التي لولاه في عسير لوجهت قوات تركية من الحجاز نحو لحج، وطالبا الإدريسي بحاجته الماسة للمؤن والذخائر، حيث أشار جاكوب أن المراكز التركية المواجهة للإدريسي وخاصة في اللحية كانت قوية التحصين مما يستلزم مساعدة الإدريسي وتدعيم قوته، وقال جاكوب في تقريره أن الادريسي أبلغه في جيزان بأنه واثق من نجاح البريطانيين في الميادين الخارجية الأخرى, ولكنه قد أبدى تخوفه من أن تترك الحامية العثمانية في اليمن في نهاية الحرب فتشكل بذلك شوكة مؤلمة في ظهره كما تعوق تحركاته التوسعية لتدعيم سلطاته في شمال اليمن.
وفي نفس الوقت توقع جاكوب أن تطلعات الادريسي للتوسع جنوبا على حساب حدود وممتلكات الإمام يحيى سيؤدى إلى حدوث صدام حاد بينهما بحيث تصبح مهمة البريطانيين حينذاك التحكيم بين الزعيمين وهو أمر لن يتوفر إلا إذا أعاد البريطانيون للإمام يحيى الأراضي الواقعة ضمن الحدود التي سبق الاتفاق عليها مع الأتراك في جنوب اليمن، وهو أمر كان يصعب على البريطانيين تحقيقه كون تلك الأراضي بمثابة حماية وتأمينا لقاعدتهم الحيوية في عدن.
واختتم جاكوب تقريره بالتأكيد على أهمية مساعدة الادريسي بشتي الوسائل الممكنة من أسلحة تمكنه من مواجهة الأتراك, ومن أموال تساعده على تأليب القبائل عليهم، كما اقترح أن تمنح الحكومة البريطانية الادريسي وسام الفروسية أو تخلع عليه لقبا دينيا مناسبا, حتى يكون هذا التقدير حافزا له على التفاني في خدمة المصالح البريطانية في منطقة البحر الأحمر وعلى مقربة من عدن في تلك الفترة الهامة أثناء الحرب العالمية الأولى.

تقسيم اليمن
نظرا لمعرفة جاكوب اللغة العربية والتعمق في الحياة الاجتماعية اليمنية وحتي استخدامه للأمثال اليمنية بما يخدم ويدعم تقاريره استطاع ان يلعب على وتر المذهبية باليمن لتكون من أهم الوسائل للسياسة البريطانية لتأجيجها في اليمن بهدف تقسيم اليمن على أساس مذهبي وقبلي ومناطقي، فقد أشار أن الادريسي نشط إلى حد بعيد في استماله رجال القبائل حتى أنه استقبل في جيزان مائتي مندوب عن قبائل عسير، كما انه حاول أن يتقرب إلى القبائل اليمنية القوية من أمثال حاشد وبكيل وإنه كان في امكانه اجتذاب هذه القبائل للانضمام إلى جانب البريطانيين ضد الأتراك إذا منحوا مبالغ مالية هي في حقيقة الأمر رشوة محضة.
أما بالنسبة لموقف الادريسي إزاء الإمام يحيى في ذلك الحين فقد أوضح جاكوب أنه قد تحول من التحالف قبل اتفاق الإمام مع الترك في سنة 1911م- صلح دعان- إلى العداء السافر بعد عقد هذا الاتفاق، ولهذا حاول الإدريسي- إذا لم تكن فكرة البريطانيين أصلا- اجتذاب إتباع المذهب الاسماعيلي في نجران إلى جانبه باعتبارهم معادين مذهبيا للإمام يحيى زعيم الزيديين، وأشار جاكوب إلى أن جهود الادريسي منصبة على العمل الدبلوماسي, وأنه ما لم يحصل على الأسلحة والذخائر اللازمة فإنه لن يتمكن من القيام بعمل جرئ حاسم ضد الأتراك.
فإن طبيعة العلاقة القائمة بين الإمام يحيى والادريسي قبيل قيام الحرب العالمية الأولى مباشرة عندما ذكر أنه تناقش مع أحد السادة اليمنيين في سنة 1912م حول هذا الموضوع , وقد أجابه هذا السيد بأن أي تقارب بين الجانبين يعتبر في حكم المستحيل نظرا لأن كلا منهما يرغب في أن يكون على رأس البيت أي أن تكون له السيادة على اليمن بأكمله، وأضاف هذا السيد مؤكدا أن اليمن طالما ظلت فريسة للصراعات الدائرة بين الزيود والشوافع وغيرهم- وهذا ما استغلته بريطانيا في عدوانها على المناطق الشمالية من اليمن في عام 1928م, وضربها بالطائرات مدينة تعز وإب والضالع مع انزال منشورات إن حربها ضد الزيود وليس الشوافع –فأنها ستسقط في النهاية في أيدي البريطانيين، وعندما أكد جاكوب لهذا السيد أنه يستبعد قيام البريطانيين بأي توسع في داخل اليمن انطلاقا من عدن, فقد أجابه هذا السيد بقوله: (إذا وضعت قطعة من الخبز في فمك فأنك لن تملك إلا أن تأكلها) وكان يقصد بذلك إن اليمن كانت ستصبح لقمة سائغة للبريطانيين طالما ظلت منقسمة على نفسها.

عدوان يتكرر
يتضح من خلال تلك الوثائق التي تم استعراضها على مدى حلقات إلى أهم ما جاء فيها فإن البريطانيين في عدن كانوا يتتبعون باهتمام بالغ نشاط القوى المعادية والصديقة في منطقة البحر الأحمر أثناء الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م)، كما اتضح ذلك من خطابات ومذكرات وتقارير المقيم السياسي البريطاني في عدن ومساعديه وكبار الضباط والمسؤولين في مختلف المجالات، حيث كانت السلطات البريطانية في عدن ترفع توصياتها إلى حكومة الهند البريطانية وتبدى اقتراحاتها المتعلقة برعاية المصالح البريطانية في عدن ومنطقة البحر الأحمر بوجه عام . وبناء على المعلومات التي تضعها تلك الخطابات والمذكرات والتقارير المختلفة كان البريطانيون يرسمون سياستهم واستراتيجيتهم لمواجهة كافة الاحتمالات المتوقعة, بالإضافة إلى الخطوات الايجابية التي يخطونها على طريق تحقيق مصالحهم في عدن ومنطقة البحر الأحمر على السواء، ومازالت تلك السياسة الاستعمارية لتلك التقارير ترسم اليوم بعد أكثر من مائة عام على كتابتها فيما يخص اليمن من خلال عدوان 26 مارس 2015م وما تلاه حاليا من العدوان الأمريكي- البريطاني 2024م, على اليمن ما هو إلا امتداد لاستراتيجية استعمارية قديمة تضمنتها العديد من التقارير البريطانية بالماضي لكنه لم يكتب لأغلبها النجاح آنذاك فهي اليوم بمثابة مشاريع استعمارية كانت مؤجلة تعاد اليوم لأرض الواقع.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا