كتابات | آراء

وأهلها مصلحون

وأهلها مصلحون

لطالما يتوق الإنسان إلى حياة مترفة تغمرها السعادة والرفاه اللامحدود، وامتلاك المال -الذي يحبه حباً جماً- والبنين والنساء والذهب ... إلخ ،

التي أخبرنا الله -سبحانه وتعالى- عن شغف الإنسان بها بقوله : [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْـمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْـمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] .
فيحيا الإنسان هذه الحياة الدنيا متوهماً خلوده فيها ،  وهو يرى الأجيال تحيا وتموت دون أن يعيره ذلك أي اهتمام ؛ لكونه جهولاً وعجولاً وهلوعاً .
وعلى الرغم من كل الضوابط التي أمرنا الله -سبحانه وتعالى- بها  لتنظيم قواعد الاستخلاف في الأرض للإنسان، وإقامة الحياة بكل توازن وعدل وسلام ، واحترام حقوق الآخرين ، وعدم الانقضاض عليها واغتصابها وتملكها ، إلا أن الإنسان يرغب أن يتمرد على كل تلك الضوابط والسنن الإلهية والفطرة التي فطر الله الناس عليها ؛ لأنها تحد من رغبته الجامحة لإشباع رغباته وشهواته التي ينساق إلى تحقيقها دون أيَّة ضوابط اتباعاً لأهوائه ورغبات نفسه الأمَّارة بالسوء .
 هذه الرغبات التي يؤجج نارها إبليس الشيطان الرجيم ، موسوساً للإنسان بعظمة امتلاكها ، فيجعله يتمادى إلى حقوق الآخرين وينهبها ، أو يتخلى عن أيَّة مسؤولية تناط به، أو يطمح إلى ما في أيدي الآخرين طمعاً وجشعاً للحصول عليه واقتنائه حتى ولو كان محرماً عليه !!
ومن الحقيقة بمكان أن هوى النفس المفعم طمعاً وجشعاً وأنانيةً من شأنه أن يُشَيِّد المكر ، ويبتكر الخديعة ، ويصنع الاحتيال، ليهوي بصاحبه إلى الانزلاق في مستنقع الانحلال الخُلُقي فيلوذ بالظلم الذي حرمه الله -سبحانه وتعالى- على نفسه وعلى عباده . ولا يختلف عاقلان على أن الظلم هو جزء من الفساد في الأرض الشامل لكل شيء يخالف السنن الإلهية ، بما في ذلك الفساد الأخلاقي ، ونتيجةً لذلك ينشأ الصراع بين الأفراد والمجتمعات ، فيستقوي بعضهم على البعض الآخر ، ولا يخلو مجتمع من صنفين من أفراده ، أحدهما يشمل الطغاة والجبابرة والمستكبرين ، والصنف الآخر يشمل الفقراء والمستضعفين الذين لا يجدون بدّاً من العيش في الحياة بذلٍ وهوانٍ وضعفٍ وخنوعٍ وخضوع ، فيلجأ بعضهم إلى السير في طريق الارتزاق ليجعلوا من أنفسهم عملاء وخونة لدى الطغاة والمستكبرين نظير أجرٍ زهيد من فتات مالٍ حرام يتلقفونه من أربابهم المستكبرين والمفسدين في الأرض الذين بات من السهل عليهم تجنيد أولئك العملاء والخونة -الذين لم يتورعوا عن بيع أنفسهم وكرامتهم بثمنٍ بخس-  لصالحهم ؛ ليسلطوهم على كل حُرٍ وشريف يأبى الخنوع والمذلة متشبثاً بحبل الله المتين الذي سيمكنه من أن يعيش الحياة بعزة وكرامة مطالباً بحقه الذي ينهبه الطغاة والمستكبرون والمفسدون في الأرض .
 فالله -سبحانه وتعالى- الرحيم واللطيف بعباده ،  والخبير والبصير بخلقه ،   أراد للإنسان أن يحيا حياة كريمةوأن يقيم الاستخلاف في الأرض كما أمره ، فأنزل كتبه وأرسل رسله لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، ودلّهم على نعمه التي أسبغها عليهم ؛ لينعموا بها ، ويشكروا الله على ما تفضَّل به عليهم رحمةً بهم كي لا يخسروا دنياهم  وآخرتهم ، فبيّن في كتابه كل تفاصيل الحياة ومصادر الأرزاق، وبعث إليهم رسوله ليهديهم إلى صراطه المستقيم وليدلّهم كيف يتحركون في هذه الحياة ، ويستثمرون وجودهم فيها، وكيف يصلون إلى الرزق الحلال بما أودع الله في هذه الأرض من خيرات لا تُعَدُّ ولا تُحصى .
بَيْدَ أن الإنسان لم يدرك  بعد أنه مستخلفٌ في الأرض ، وأن الله -سبحانه وتعالى- الذي خلق الأرض في يومين وقدَّر أرزاقها وأقواتها في يومين ، تلكم الأرزاق والأقوات فيها ما يكفي للإنسان ولو بلغت أعداده ملايين الأضعاف التي هي عليه اليوم ، لكن الإنسان عجولٌ بطبعه ، لا يريد أن يسعى في مناكب الأرض ليجد الأرزاق الكريمة التي أودعها الله في الأرض وجعلها للإنسان ؛ ليقيم الاستخلاف الذي أراده الله -سبحانه وتعالى- وأمره به .
ونتيجةً لمخالفة الإنسان
وتمرده الواضح على تلكم الضوابط والسنن الإلهية التي وضعها الله -سبحانه وتعالى- وفطر الناس عليها ، ناهيك عن عدم اهتدائه بهدي الله واتباع رسله وقادته أعلام الهدى وقرناء القرآن ، ظهر الفساد والإفساد اللذان نجم عنهما الاستبداد والطغيان كنتيجةٍ حتمية الحصول إذا ما استغنى الإنسان وصار غنياً ، وهذا ما أخبرنا به المولى-سبحانه وتعالى- بقوله:[ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى] ، فخسر الإنسان بذلك نفسه ، وفتح للمفسدين والطغاة والمستبدين والمستكبرين طريقاً لاستضعافه في أرضه ، ونهب ثرواته وخيراته التي قسمها الله رزقاً له ولأبناء جلدته ، فضلَّ يتصارع مع إخوانه على فتات الرزق ، بدلاً عن أن يقف في وجه أولئك المفسدين والطغاة .
ولمواجهة هذه المشكلة والحدِّ منها ، بيَّن الله -سبحانه وتعالى- الحلال والحرام ، وأمر الإنسان أن يلتزم بذلك طاعةً له كي يكسب الأجر والثواب على التزامه بطاعته فيربح الدنيا والآخرة .
ولم يكن الله -سبحانه وتعالى- ليترك الناس تائهين في ظلمات الجهل بعد رحيل المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- دون أن يُنَصّب لهم أولياءه ورثة القرآن من أعلام الهدى الذين مكنّهم الله -سبحانه وتعالى- من فهم وإدراك آياته ؛ لتعليم الناس وتوجيههم إلى سعادتهم الحقيقية ، والأخذ بأيديهم إلى مايعود عليهم بالخير والمنفعة والصلاح .
ثم إن الله -سبحانه وتعالى- افترض أن يكون في كل قوم وفي كل قرية وفي كل مجتمع مصلحون يقومون بدور الإصلاح ومواجهة كل فساد [وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ] ؛ كي لا يحق القول على الناس فيهلكهم الله بظلمهم وفسادهم نتيجة انحرافهم وابتعادهم عن أعلام الهدى مصداقاً لقوله تعالى:[ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْـمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] . فمن يكون أولئك المصلحون؟ هم أولئك المؤمنون الصادقون المحسنون ،  الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ،  المنبثقون عن أعلام الهدى ليقوموا بواجبهم ودورهم تجاه أبناء أمتهم فيهدوهم ويوجهوهم إلى سبيل الرشاد ، وقد افترض الله بعباده المؤمنين أن يكونوا مصلحين لا صالحين فقط ، فالصالح صالحٌ لنفسه ، ولا يُعدُّ الصالح لنفسه صالحاً ما لم يمتد تأثير صلاحه وإحسانه على الآخرين ، ولربما شارك وساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في انتشار الفساد بصمته حيال المفسدين ؛ لكونه لم يأمر بمعروف ولم ينه عن منكر ، فأخرج نفسه حتماً عن دائرة الصلاح ؛ لأن الإصلاح بين الناس في الأمة هو من أفضل الأعمال الصالحة وأعلى مراتب الإحسان ، وهو عمل الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ، قال تعالى عن نبي الله نوح :[ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ] ، فلا يكون صالحاً من لم يكن مصلحاً في أمته وفي مجتمعه .
أما المصلح فهو صالح بذاته ومصلح لغيره ، ولا ينتج عن إصلاحه أي خراب أو فساد من شأنه أن يفسد الحياة بأسرها ويوجب عذاب الله الذي سينزل بالناس ، والمصلحون هم أولئك الذين لا يتوقفون عن قيامهم بدورهم المناط بهم ، وهم من أهل الورع والزهد والتقوى والإحسان والصدق والأمانة والإيمان والمحبة والشجاعة والكرم والبذل والعطاء والتفاني في أعمالهم ، فضلاً عن كونهم عوناً لأعلام الهدى ، ولابد للمصلح أن يكون مصلحاً في كل أحواله وأينما كان موقعه في المسؤولية ، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم :" كلكم راعٍ ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته " ، فكل مسؤول لابد أن يكون مصلحاً في إطار مسؤوليته ، فالموظف مسؤول ولا بد أن يكون مصلحاً في إطار مسؤوليته، وكذلك الطبيب والمهندس والمعلم ، وكل من يقوم بأيّة مسؤولية تجاه بيته وأولاده ومجتمعه والناس ، كي نستحق من الله النصر والتمكين ، وحتى لا تفسد الأرض بفعل المفسدين فيحق علينا القول فيدمرنا الله -سبحانه وتعالى- تدميراً ، ولعل الأنانية التي في النفوس هي التي تفسد كل شيء ، وهي أول الفساد ومنشؤه .
 إننا اليوم في اليمن نعيش بنعمةٍ و فضلٍ من الله -سبحانه وتعالى- أن رزقنا بعلم من أعلام الهدى يعلمنا الكتاب والحكمة ، ويسير بنا إلى طريق الحق والخير والصواب ، فلا يجب علينا أن نخسر هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله بها علينا ، بل على العكس من ذلك ، إذ ينبغي علينا أن نكون مصلحين حقيقيين ،  
لا مدعين -طبعاً- في تولي المناصب حتى إذا ظفرنا بها ظهر عجزنا عن القيام بمسؤولياتنا كما يجب ،  فنكون من أولئك الذين قال الله -سبحانه وتعالى- عنهم : [ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ♡ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْـمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ] ، ونتحول حينها إلى مفسدين بجهلنا وعجزنا عن قيامنا بمسؤولياتنا .
ولكي نكون مصلحين حقيقيين لابد لنا أن نمتلك من الصفات والمؤهلات ما تمكننا من القدرة على القول والعمل والفهم والإدراك ، لنستعين بها على التغيير والإصلاح ، ونكون مخلصين في أعمالنا لله أولاً ولأمتنا ثانياً ، فنتقدم بها إلى الأمام ونكون -بإذن الله- نحن الوارثين..  والحمد لله رب العالمين.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا