كتابات | آراء

لفتة رد جميل لأستاذ جليل من تلميذ نبيل

لفتة رد جميل لأستاذ جليل من تلميذ نبيل

ممَّا لا يُختلَف فيه أنَّ المعلم يعدُّ حجر الزاوية في العملية التعليمية، ومتى تهيأت له الظروف المعيشية التي تغنيه عن الإعانات الإغاثية وفرص التأهيل التخصصية التي تعينه على إتقان مهنته التدريسية ومناخات الاطلاع التي تُسهم في توسيع مداركه الثقافية والمعرفية

ونال من أبناء مجتمعه الاحترام والتوقير اللذين يليقان بما يضطلع به من وظيفة رسالية إنسانية غاية في الأهمية -باعتباره إحدى القدوات المجتمعية- نجح في قيادة عملية تعليمية ذات مضامين قيميَّة وتربوية ومعرفية وفلسفية سوية تسهم في تخريج جيل من النوابغ الأشداء الذين ينطلقون -بشغفٍ ونهم- للارتقاء بوطنهم على أساس من الوفاء والاكتفاء عمَّا في حوزة الأعداء.
ومتى ما استُخف بشأن المعلم ونِيل من مكانته وسُفَهت أحلامُه وتُجوهِلت آمالُه وآلامُه، كان ذلك مؤشرًا خطيرًا على تضاعف فرص تخلف الأمة ووقوعها بين براثن أزمات جمَّة وخطوبٍ مدلهمَّة، وهذا الأمر حاصل -وبشكل متواصل- في معظم أقطار عالمنا العربي التي جحدت حقَّ المعلم المربي الذي يفترض أن يُعامل في أوساط مجتمعه معاملة نبي.
لكن بالرغم ممَّا يتعرض له حامل مشعل العلم والمعرفة في معظم مجتمعاتنا العربية المتخلفة من معاملة مجحفة وغير منصفة، فإنَّ بعض النابغين من التلاميذ يرتقون فوق هذه السلوكيات التعاملاتية السلبية بصور فردية، يمكن أنَّ نرسم من خلالها -بالرغم من ضآلتها العددية- ما لم يزل يراود بعضنا من أحلام وردية.
ومن الأهمية بمكان -ونحن في مستهل عامٍ دراسيٍّ ثان- أنَّ نعمم -مبتهجين سعيدين- موقفًا تربويًّا مؤثرًا حدث بين شخصيتين في «بلاد الرافدين» جسَّد -بأسلوبٍ ليس له مثيل في واقع هذا الجيل- [لفتة ردِّ جميل لأستاذٍ من تلميذ نبيل]، ولنا أن نستجليَه من مضمون القصة التالية:
(دعيَ الدكتور «ضياء كمال الدين» كبير استشاريي أمراض القلب في «المستشفى الملكي» بـ«لندن» ذات عام إلى بلده العراق حتى تقام له فعالية  تكريم نظير تميزه في الأداء وتحقيقه شهرة واسعة الأصداء.
وفيما الدكتور داخلًا القاعة التي أضحت مكتظةً بجمع غفير من الجماهير المتعطشين لحضور فعالية تكريم هذه الشخصية التي عكست عن بلدهم -في «بريطانيا» ذات الرؤية العنصرية المشدودة إلى الحقبة الاحتلالية- صورةً مشرقة على مدى 15 عامًا متوالية، استوقفه -على مقربة من مدخل القاعة- منظر رجلٍ مسنٍّ يفترش الرصيف بعدد من الصحف متفائلًا أن يحصل ممَّا قد يبيعه منها -في ضوء احتواء القاعة على ما لم يعهد من عدد- على ما قد يقيم به الأود.
والأهم أنَّ صورة ذلك المسنِّ وبريق عينيه اللذين كانا ما يزالان -على الرغم من شدة بؤسه وضعفه- يشعان علمًا ومعرفة ويوحيان بما يجمعهما من سابق معرفة.
وفي الوقت الذي كانت أنظار الجماهير مشدودة إلى شخص الطبيب الاستشاري الشهير كان الطبيب مستغرقًا في تفكيرٍ عميق بأمر بائع الصحف، وبما ينتابه من شدة وضيق محاولًا الغوص في أعماق الذاكرة، لعله يتذكره.
وفي لحظة نطق لجنة التكريم باسمه ليصعد إلى المنصة حتى ينال من مظاهر التكريم ما هو بهِ خليق وما صاحب ذلك النطق من هتاف وتصفيق، كان قد تذكر أنَّ المسنَّ ذا الأوضاع المجتمعية والمعيشية المتردية هو أهم مدرسيه في المرحلة الإعدادية، وإذْ كان جمهور الحضور يتوقعون منه التوجه إلى المنصَّة اتخذ -وسط ذهول الحاضرين- وجهةً خاصَّة باتجاه الرجل المسنَّ الذي توجس من توجهه إليه ظنًّا منه أنه مقبل حتى يسجل مخالفة عليه.
ولم يجد -في مقابل إمساك الدكتور بيده- سوى الاعتذار له على ما قد ظنه مخالفة غير مقصودة محاولًا النهوض وهو يعده بمباشرة رفع جرائده.
وحين تبين المسنُّ  أنَّ الدكتور ينوي جرَّه إلى قاعة التكريم لأمر قد ينفعه أو يضرُّه، وأنه لم يأبه بما صدر عنه من اعتذار، بل ظل يجرُّه- بصمت- إلى منصة التكريم بما يشبه الإجبار، فقد أعلن استسلامه وكفَّ عن المقاومة.
وحين بلغ الدكتور بأستاذه القديم منصة التكريم انخرط في موجة بكاء حارة وأخذ يعانق الرجل ويقبل رأسه ويده بشدة وهو يقول -بصوتٍ متهدج ثقيل-: أما عرفتني يا أستاذ "خليل"؟
قال المسنُّ: لا والله يا بني، العتب على النظر.
فرد الدكتور وهو يكفكف دموعه: أنا تلميذك "ضياء كمال الدين" في الإعدادية المركزية، وقد كنت -بفضل ما كنت توليني من متابعة وتشجيع واهتمام- أحرز -على الدوام- المركز الأول على زملائي عامًا بعد عام.
فنظر الرجل إلى الدكتور واحتضنه كما لو كان ابنه.
فتناول الدكتور الوسام وقلده لأستاذه الجليل «خليل» وهو يخاطب الحضور قائلًا:
هؤلاء هم من يستحقون التكريم، ووالله ما تخلفنا وجهلنا إلا بعد إذلالنا لهم، وإضاعة حقوقهم وحرمانهم ما يليق بدورهم الرسالي الهام من تقدير واحترام.
إنه الأستاذ [خليل علي] أستاذ اللغة العربية في الإعدادية المركزية  بـ[بغداد] عام 1966).

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا