كتابات | آراء

بوح اليراع: في وداع الضابط المثالي العميد الحقوقي (عبده أحمد الجمالي)

بوح اليراع: في وداع الضابط المثالي العميد الحقوقي (عبده أحمد الجمالي)

لم أجدني -منذ انخراطي في مجال الإعلام قبل عقدين وبضعة أعوام- عاجزًا بشكل تام عن التعبير عمَّا يعتصر قلبي من أحزانٍ وآلام قبل فجيعتي بنبأ رحيل أخي الغالي وقدوتي في معظم أعمالي الضابط والإداري والمحامي المثالي العقيد الحقوقي «عبده أحمد الجمالي».

فما أزال -من وقتٍ إلى آخر- أستحضر كيف تمَّ ضمي -شأني شأن المئات غيري- قبل أربعة عقود بل أكثر -وأنا حينذاك في منتصف العقد الثاني من عمري- إلى قافلة التجنيد الإجباري «القسري»، فقد كان شعوري وأنا أُساق إلى معسكري -نظرًا لصغر سني وشدة ذعري- أشبه بشعور محكومٍ يساق إلى غيهب سجنٍ انفراديٍّ أشد ضيقًا وظلامًا من القبرِ.
فقد عوملنا -حال وصولنا- من قبل من كلفوا باستقبالنا وتدريبنا -نتيجة انتمائنا إلى المناطق الوسطى المصنفة من وجهة نظرٍ حكوميةٍ سنحانية حاضنةً للجبهة الوطنية- معاملةَ أعداءٍ ألدَّاء، فظنَّ أكثرُنا -بالنظر إلى ما كنا نتعرض له من سوء معاملة وكثرة ما كان يوجه لنا من عباراتِ وأساليب الترهيب- أننا في معتقل، ولن تلبث أنْ تطبق علينا فيه -بعد وقت قريب- برامج التعذيب التي تطبق -بين الحين والحين- على السجناء السياسيين، وأننا سنقضي بقية سنيِّ عمرنا -كثر أو قلَّ- خلف أسوار ذلك المعتقل.

تضوُّع خطابه الوطني بالعبق الإنساني
لكننا فوجئنا ضحى ذاتِ خميس -بعد أن جُمعنا في تشكيلات سرايا ثم أُقعدنا أمام منصة إلقاء المحاضرات- بوقوف ضابطٍ برتبة ملازم ثاني تتسم هيئته -بالرغم محدودية سنه وصغر رتبته- بسيماءِ التواضع والوقار، فألقى فينا محاضرة توعوية توجيهية ذات محتوىً تربوي روحي فعال بعثت -بنبرتها الإنسانية الحانية- في نفوسنا الآمال من جديد، ومنحتنا -بمضامينها المفعمة بحب «يمن الحكمة والإيمان»- ما كنا قد افتقدناه من الشعور بالأمان.
وحين فرغ ذلك الضباط من إلقاء تلك المحاضرة ذاتِ المضمون القيم بأسلوبِ إلقاءٍ شيِّق، تبين لي أن ذلك المحاضر الذي استعدتُ -بفضل حضوره الذي لم يكن يخطر على بالي- ما كان قد تلاشى من أحلامي وآمالي هو ركن توجيه اللواء الثامن صاعقة الملازم «عبده أحمد الجمالي».

جهده العظيم في تعميم التعليم
الحقيقة أن ما كنا نعيشه -معشر المجندين- من واقع مزري قد تغير -بعد ذلك الخميس الأغرّ- بشكل جذري، فلأن أكثر مجندي تلك المدَّة لحساب تلك الوحدة كانوا ما يزالون في سن الدراسة، فقد رأى ذلك الضابط المثالي أن العمل من أجل ضمان حقهم في مواصلة التعليم من صميم تخصصه، فسعى -بادئَ ذي بدء- لدى قيادة اللواء لإقناعها بضرورة منح هؤلاء الطلاب فرصة مواصلة تعليمهم، وتوفير ما يتطلبه نجاح العملية التعليمية من أسباب، وبعد أن حظيَ بموافقة قيادة اللواء شرع بجهده وجهد العدد المحدود من أفراده -وبالاعتماد على الإمكانيات المحدودة التي وفرتها له القيادة- بتوفير الوسائل اللازمة لفتح فصول دراسية داخل المعسكر للصفوف الدراسية الدنيا وبتكليف الملتحقين في اللواء لأداء الخدمة الإلزامية من خريجي الثانوية العامة بتدريس الملتحقين بتلك الصفوف بعد التنسيق مع وزارة التربية والتعليم لتوفير ما تحتاجه تلك العملية التعليمية الداخلية التي كان هو أهم أربابها وأحد طلابها من مناهج، وبالتزامن مع بذل ذلك الجهد المضني بذل جهدًا إضافيًّا نوعيًّا لتذليل الصعوبات أمام من لم تعد الفصول الدراسية الداخلية تتناسب مع مستوياتهم التعليمية للالتحاق بأقرب مدارس التعليم العام، وقد كان -في ذات الحين- خير معين للعدد المحدود من الطلاب الجامعيين.
وعند ما توزعت كتائب اللواء على عدد من الأنحاء ضاعف الملازم المثالي «عبده الجمالي» جهوده لتتواكب أعماله -كما لو كان شخصه هيئةَ توجيهٍ متكاملة- مع ما يتطلبه تعقد وتضخم حجم المهمة من مثابرةٍ وشحذٍ للهمة، فكان يتجشم من العناء اللامحدود ما يمكنه من توفير المدرسين والمناهج الدراسية للجنود المرابطين في أقاصي الحدود.
وعند ما أُقصيَ ذلك الرجل العظيم من منصبه ذي المهام الحيوية المتعددة -نتيجةَ وشايةٍ حاقدة- كان قد تخرج مئاتٌ -وربما آلالافٌ- من منتسبي اللواء -في تلك الأثناء- من الجامعة، بالتزامن مع تخرُّجه هوَ -بتفوق- من «كلية الشريعة والقانون» بجامعة صنعاء.
ولم يلبث ذلك الرجل الفذ الذي كان وما يزال آلافّ الرجال يدينون له -بعد الله- بما تحقق لهم من نجاح أن انطلق للعمل في سلك المحاماة بنفسٍ مطمئنةٍ وضمير مرتاح، فأثبتت الوقائع الكثيرة أن جهده في التعاطي مع أعقد القضايا وأدق المسائل كان يسخر لإحقاق الحق وإبطال الباطل ولنصرة المظلوم ابتغاءَ مرضاةِ الحيِّ القيوم.
وها هو يرحل عن دنيانا الفانية إلى رحاب (جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) تاركًا أخلد الذكريات التي ستظل تعكس خلودَ مواقفه الإنسانية.
فسلام عليه يوم هلَّ وليدًا ويوم رحلَ فقيدًا ويوم يبعثُ -في زمرةِ خير الأنام- سعيدًا.

و(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ).

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا