كتابات | آراء

النظام العالمي  والوعي بمساراته

النظام العالمي والوعي بمساراته

برز في الخطاب الفكري والثقافي الغربي قبل عقود موضوع صراع الحضارات ولم يكن هذا الموضوع حالة ذهنية وفكرية ترفيهية, بل كان حالة من حالات التجدد للجدلية التاريخية-

صراع الطبقات والمصالح الاقتصادية- لكنه أخذ بعدا حضاريا جديدا ولذلك لا يمكن القفز على حقيقة الثنائية التاريخية الحضارية بين الروم/ والفرس وهي الصورة النمطية التاريخية التي بدأت حالتها تتجدد في المشروع الرأسمالي منذ منتصف السبعينات في القرن العشرين وصولا الى مطالع الألفية الجديدة  ففكرة الأصوليات التي قال بها برجنسكي في السبيعينات من القرن العشرين ورأت فيها الإدارة الأمريكية قارب نجاة للرأسمالية من الهزيمة المحتملة أمام الشيوعية والاشتراكية لم تغفل الحضارة الفارسية بل كان من نتاجها ثورة ايران الاسلامية التي قادها  الامام الخميني نهاية السبعينات من القرن العشرين  وكذلك استراتيجية مؤسسة راند لعام 2007م التي كان من نتاجها ثورات الربيع العربي في عام 2011م.
وبعد سنين عشر من إنهيار الاشتراكية العالمية كفكرة وكنظام  وجد النظام الرأسمالي العالمي نفسه في أزمة وجود  فقد تفرد في إدارة العالم  وتفرد في صياغة أزمات العالم  ووجد نفسه عاجزا عن ابتكار الحلول للأزمات والمشاكل  ولذلك كانت فكرة 11سبتمبر التي أبدع صناعتها واخراجها هي محور الارتكاز التي من خلالها استعاد توازنه الدولي  إذ توالت الدراسات والابتكارات التي كانت في الغالب تركز على استغلال المساحات الفارغة عند العرب والمسلمين واستغلال ثرواتهم لمواجهة الصعوبات التي تواجه النظام العالمي الجديد ولذلك – ووفق الكثير من الرؤى التحليلية– كان أحد اهداف الدراسة التي أعدتها مؤسسة "راند"– وهي مؤسسة رائد في الدراسات الاستراتيجية في أمريكا– لمصلحة سلاح  الجو الامريكي  وكان عنوان الدراسة "العالم الاسلامي بعد الحادي عشر من سبتمبر" وتضمنت تركيزا وتوجيها مكثفا على واقع العرب والمسلمين وسبل التعرف على الانقسامات وخطوط الصدع الطائفية والعرقية على المستوى الاقليمي والوطني للدول الاسلامية  وطرحت الدراسة رؤى في التحرك في مساحات  التصدع والانشقاق لخلق التحديات والفرص للنظام الرأسمالي الذي تتزعمه امريكا في الحفاظ على نفسه من الانهيار والثابت وفق الكثير من الشواهد أن البعد النظري قد تحول الى واقع عملي  فقد بدأت الاجهزة الامريكية المختلفة بالتواصل مع الجماعات التكفيرية عن طريق "الدوحة " بهدف توظيف الجماعات للقيام بعملية التفتيت والتفكيك تطبيقا لخطة الشرق الأوسط الجديد التي وضعها  "برنارد لويس"- وهو مفكر يهودي بريطاني احتوته  المخابرات الامريكية واستخلصته لنفسها وكان يرى أن ثمانية قرون من الحرب لم تخرج المسلمين من الاندلس ولكن عندما قاتلوا بعضهم البعض انتهت دولتهم ولابد من إعادة هذا السيناريو في منطقة الشرق الاوسط- ومثل ذلك التوجه تؤكده تصريحات بعض مسؤولي البيت الابيض الامريكي ومنهم هيلاري كلينتون التي تولت منصب وزيرة الخارجية  حيث قالت في واحد من تصريحاتها:
"إن أمريكا لن تدفع أموالا في حرب المسلمين فهم سيتولون ذاك بأنفسهم".
وقد شهدت المنطقة العربية بزوغ حركات وجماعات تكفيرية إرهابية تنشط متى كانت هناك حاجة لنشاطها وتخمل متى كان الواقع السياسي يتطلب ذلك فهي قطعة من شطرنج تحركها أيادٍ استخبارية عالمية ومثل ذلك الأمر لم يعد بخافٍ على كل متابع حصيف لمسارات الأحداث في الواقع العربي.
لقد تولت الجماعات التكفيرية مهمة تفكيك وتمزيق الأمة الاسلامية وحولتها الى طوائف وشيع وجماعات وعمقت من الجروح وأشاعت فيها البدائية والتوحش والتفكير الاسطوري ورأينا في حال العرب والمسلمين بدعا وأمرا عجبا لا يقبله عقل كما هو الحال في العراق وفي غيره من البلدان.
يقول بريجنسكي في كتابه "بين عصرين": "تواجه الرأسمالية هزيمة أيديولوجية وفكرية كبيرة ويرى أن الحل الوحيد لإنقاذ الرأسمالية هو احياء الاصوليات الدينية ودفعها للصدام مع الشيوعية والاشتراكية وحركات التحرر في العالم عندها- كما يرى- تهزم الشيوعية والاشتراكية بقوة الاصوليات الدينية وسوف توفر مناخا ملائما للرأسمالية الامريكية وتوفر فرصا استراتيجية كبرى لإعادة تنظيم العالم تحت قيادتها".
ومنذ عقد الثمانينات من القرن العشرين سارت السياسة الامريكية في هذا الخط حيث تبنت دعم الاصوليات الدينية ليس حبا في الدين وانما رغبة في الانتصار على النظام الاشتراكي ورغبة في حماية المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى وكان لتعاظم الاصوليات الدينية (الاسلامية  واليهودية  والمسيحية والهندوسية) دور في التمهيد للسيطرة على العالم وبالتالي التفرد في اشغال واستنزاف وشرذمة حركات التحرر في العالم وفي الوطن العربي على وجه الخصوص  وفرض مبدأ الاستسلام للصهيونية في فلسطين الذي لم يعد خافيا اليوم على أحد  فقد كان في الماضي يتستر تحت غطاءات مختلفة أما اليوم فقد أعلن عن نفسه على لسان قادة النفط في الخليج بكل تجلٍ ووضوح.  
لقد تحقق للرأسمالية في نهاية المطاف ما كانت تصبو اليه وهو التفرد في قيادة العالم والتحكم في الصراعات الدينية والطائفية والحضارية والرأسمالية ومن ورائها الصهيونية تهدف من وراء كل ذلك – كما تقول الاستراتيجيات الصادرة عنهما وتدل عليه حركة الواقع في العالم اليوم – تفتيت الأمم وتفكيك عراها العقائدية والثقافية على أسس ما قبل الأمة والدولة حتى تتمكن من السيطرة عليها والتحكم بمستوى المصالح في العالم  وقد رأينا ما قامت به "داعش" وما تقوم به بعض الاصوليات من غير المسلمين  فقد أصبح كل شيء واضح ومقروء في واقعنا ومن حولنا لكن قليل منا من يفقه ما يدور بدليل أن ما حدث في الجزائر وفي السودان بعد كل التجارب التي مرت بها بعض الدول في الوطن العربي- دون أخذ العظة والعبرة- هو التيه بعينه الذي وصلت اليه أمتنا العربية والاسلامية.
في المستوى الحضاري الذي نعيشه اليوم خيار الفناء موجود في مقابل خيار البقاء والبقاء فيه ليس وفق المعادلة القديمة للأقوى بل للأكثر فهما وتوظيفا لسيل المعلومات التي كانت تصنع وأضحت في مراتب التوظيف لها من خلال القدرة على إدارتها وتحقيق مصالح الشعوب من خلال حسن الدراية والوعي المتفاعل مع مجريات الاحداث.
الاستثمار اليوم أضحى في الافراد وفي الاشخاص من خلال تنمية القدرات وتفجير الطاقات والتفاعل مع قيم الانتاج وليس من خلال حالة الترهل في مؤسسات التكاثر الثقافي لابد من الوعي بالمرحلة وصياغة مجموعة أهداف والقيام بالتحديث في بناء الكيانات والمؤسسات حتى تواكب المرحلة من أجل التحكم بمسارات المستقبل.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا