أخبار وتقارير

فلسطين.. من الانتداب إلى التقسيم!

فلسطين.. من الانتداب إلى التقسيم!

علي الشراعي

في عام 1946م كتب الكولونيل (ويليام إيدي) الوزير الأمريكي المفوض في جدة في مذكراته يقول أن الرئيس ترومان قد أبدى اهتماما بالمطالب اليهودية في فلسطين, فحاول إيدي أن يلفت انتباهه أن ذلك قد يغضب العرب, فأنفعل عليه ترومان وقال غاضبا: اسمع..

إنني أنوي ترشيح نفسي للرئاسة مرة أخرى, وحسب علمي فإن العرب ليس لديهم أصوات في الانتخابات الأمريكية, لكن اليهود لهم أصوات ولهم تأثير).

الانتداب البريطاني
حين تقرر انتداب بريطانيا على فلسطين تضمنت بنوده شروط إنشاء وطن قومي لليهود وإقامة وكالة يهودية, كما نص صك الانتداب على تسهيل هجرة اليهود وإقامتهم في فلسطين، ففي 24يوليو 1922م, أقرت عصبة الأمم النص المتعلق بالانتداب البريطاني على فلسطين, والقاضي بأن تبذل سلطة الانتداب قصارى جهدها لتحقيق وعد بلفور وذلك عن طريق تسهيل الهجرة أمام اليهود إلى الأراضي الفلسطينية، وأقر صك الانتداب على فلسطين ضرورة اشتراك المنظمات الصهيونية في إيجاد الحلول الملائمة لاستعمار فلسطين وكان هذا الموضوع أسند أول الأمر للمنظمة اليهودية الصهيونية ثم بعد 1929م تبنته الوكالة اليهودية، وأقر قانونا للجنسية يتيح لليهود تسوية وضعهم القانوني، وجعلت الإنجليزية والعربية والعبرية لغات رسمية، وأعياد هذه الطوائف الثلاث اعتبرت أيام تعطيل، كما ضمن صك الانتداب الأماكن المقدسة وحرية زيارتها أمام جميع الطوائف، أقامت تدابير الانتداب على فلسطين نوعا من التمييز العنصري بحق السكان غير اليهود, وأعلن قيام (وكالة يهودية) وهي المنظمة الصهيونية نفسها للتعاون مع إدارة الانتداب البريطاني, ولتسهيل هجرة واستيعاب الوافدين إلى فلسطين، ولم يعلن عن شيء من هذا النوع لتمثيل السكان العرب, ولم يكن لهم حتى منظمة رسمية معترف بها في مجال الدفاع عن حقوقهم وتمثيلهم لدى سلطات الانتداب البريطاني.

الكتاب الأبيض
في حقبة ما بين الحربين العالميتين, حدثت في فلسطين تغييرات أساسية وعميقة, وغير قابلة للتراجع على الصعد السياسية والاقتصادية والديموغرافية، فنسبة السكان التي كانت 7 على 1 لمصلحة المواطنين العرب باتت لا تتعدى نسبة 3 إلى واحد بعد عشرين عاما، وكانت موجات هجرة اليهود المتأثرة بالسياسة البريطانية من جهة وبسياسة الدول التي يغادرها المهاجرون من جهة أخرى تسبب في فلسطين اصطدامات متصاعدة الخطورة, وهب العرب يطالبون باستقلال فلسطين ووقف هجرة اليهود فورا ومنع بيع الأرض الفلسطينية إلى اليهود، وراحت الأزمة تتفاقم وتتعقد بزيادة الوعي القومي عند الفلسطينيين العرب والذي قابله استقواء الوكالة اليهودية واعتمادها على العنف والإرهاب، ولكن عرب فلسطين قاوموا المخططات البريطانية- الصهيونية منذ البداية وفي عام 1936م نشبت الثورة الفلسطينية الكبرى- ثورة عز الدين القسام- التي استمرت حتى نشوب الحرب العالمية الثانية في عام 1939م, وحينها كانت بريطانيا في موقف لا تحسد عليه ففي خلال عامي 1938 و1939م, اشتدت الدعاية النازية والايطالية في التنديد بالسياسة البريطانية في العالم العربي واستغلت فرصة ازدياد الهجرة اليهودية ولهذا فان توتر الموقف الدولي خلال الشهور التي سبقت نشوب الحرب العالمية الثانية قد دفع بريطانيا إلى اتباع سياسة تهدف إلى تهدئة العالم العربي الذي يتحكم في شريان المواصلات الإمبراطورية البريطانية, وفي 17يناير 1939م صدر كتاب أبيض. وأرادت بريطانيا ضمان وقوف العرب معها في الحرب كما فعلت معهم في الحرب العالمية الأولى، فأصدرت (الكتاب الأبيض) في 17مايو 1939م, والمتضمن ما خلاصته (ما دام تطبيق الانتداب في فلسطين غير ممكن, فلابد من انتهاج سياسة جديدة, لا يكون هدفها إقامة دولة يهودية في فلسطين بل دولة فلسطينية مستقلة يتعاون فيها العرب واليهود على أساس المبادئ التالية:
1- يسمح بدخول 75 ألف مهاجر يهودي جديد إلى فلسطين خلال الأعوام الخمسة المقبلة.
2- بعد انقضاء الأعوام الخمسة أعلاه لن يسمح بهجرات جديدة إلا بموافقة السكان الفلسطينيين.
3- للمفوض السامي البريطاني صلاحية مطلقة في اتخاذ التدابير اللازمة لمنع انتقال الملكية العقارية)- فالكتاب الأبيض خديعة أخرى من بريطانيا فأرادت ان تطمئن العرب عامة والفلسطينيين خاصة فهو يلبي أحد مطالب العرب أن يبقوا أكثرية داخل فلسطين وفي الدولة الفلسطينية المنتظرة والتي ستقام بعد عشر سنوات.

مؤتمر بلتمور
لم تكن الصهيونية لترضى بهذا , فأعلنوا أن بريطانيا خانتهم وخرقت العهد الذي قطعه بلفور، وكان ردهم تضخيم حجم الهجرة السرية في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها, والتصلب في مواقف الرفض العنيف فعقدوا ما بين 9 و11 مايو 1942م مؤتمرا طارئا ضد سياسة الكتاب الأبيض لصياغة أهداف ما بعد الحرب وذلك في فندق بلتمور بنيويورك، وقد حضر المؤتمر 600مندوب معظمهم من اليهود الأمريكان وان يكن قد اشترك فيه أيضا كثير من الزعماء الصهيونيين الأوروبيين وثلاثة من أعضاء اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية منهم حاييم وايزمان وبن غوريون، وقد ناقش المؤتمر شكاوى اليهود من الإدارة البريطانية وتقرر الإصرار على أن يقوم في فلسطين (كومنولث يهودي يصبح جزءا من كيان العالم الديمقراطي الجديد- أمريكا)، وأكد بن غوريون أن القوة ستستخدم لتنفيذ هذا الهدف إذا ما اقتضى الأمر بما في ذلك فتح باب الهجرة إلى فلسطين على مصراعيه أمام اليهود تحت أشراف الوكالة اليهودية.

اختلال التوازن
في عام 1945م, اختل التوازن العالمي بعد انهيار النظام النازي الألماني وهزيمة اليابان وتراجع الأدوار الاستعمارية لفرنسا وبريطانيا, مما دفع دولتين عملاقتين إلى الواجهة العالمية, الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وأدى ذلك إلى مغادرة عشرات الآلاف من اليهود من أوروبا صوب فلسطين، وتألفت لجنة أمريكية بريطانية مشتركة لإحصاء الراغبين في الهجرة إلى فلسطين, وأصدرت إجازات لمائة ألف مهاجر إلى فلسطين فألغت ما جاء في بنود الكتاب الأبيض لعام 1939م, والذي جعل الحد الأقصى للمهاجرين 75ألفا خلال خمس سنوات،- وبذلك أدرك العرب خديعة بريطانيا لهم للمرة الثانية ولكن هل اتعظوا؟! فالتاريخ والواقع يحدثنا أنهم إلى اليوم يجرون وراء سراب وخداع الغرب لهم وعلى رأسهم بريطانيا وأمريكا-، وأعلنت اللجنة أن فلسطين لن تكون دولة يهودية أو عربية وعلى أثر إعلانها هذا, تلقت مقترحات عديدة منها اقتراح ممثل المكتب العربي في القدس جاء فيه: (أذا أدركت الصهيونية هدفها, أصبح العرب أقلية في ديارهم.. والحق يقال أن الصهيونية أصبحت في نظر العرب الاختبار الذي يكشف لهم نيات الدول الغربية نحوهم، إن العرب يعارضون الصهيونية السياسية معارضة لا رجوع عنها ولكنهم لا يضمرون أقل عداوة لليهود بصفتهم يهودا ولا لأبناء دينهم المقيمين في فلسطين).

قرار التقسيم
في 18فبراير 1947م, أعلن رئيس الوزراء البريطاني أنه قرر عرض قضية فلسطين على منظمة الأمم المتحدة لتتخذ القرار المناسب بشأنها بعد أن مكنت الصهيونية من كل الوسائل التي تمكنهم من إعلان كيانهم، عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة دورة استثنائية بتاريخ 28ابريل 1947م واستمرت إلى 15مايو, وقررت تأليف لجنة خاصة لبحث القواعد التي يمكن أن تقوم عليها الحكومة المقبلة في فلسطين، وأثناء الجلسة تكلم ممثل الاتحاد السوفيتي (اندريه غروميكو) فأيد الموقف الصهيوني تأييدا غير متوقع ومما قاله: (لابد من الإذعان للتقسيم, إذا تعذر قيام دولة مزدوجة القومية!)، واستمعت اللجنة إلى وجهات النظر فطالبت أكثرية المنظمات الصهيونية بدولة يهودية مفتوحة كليا لهجرة اليهود لها من مختلف أنحاء العالم، في حين طالب ممثلو اللجنة العربية العليا بإقامة دولة عربية موحدة تحظر فيها هجرة اليهود, وتتخذ التدابير القاطعة لمنع انتقال الملكية العقارية من العرب إلى اليهود، ولما وضعت اللجنة تقريرها ضمنته اقتراحين: أكثرية أعضائها أوصت بوضع برنامج للتقسيم مع المحافظة على الوحدة الاقتصادية، ومقترح الأقلية آثرت قيام دولة فدرالية، فتبنت الجمعية العمومية في 31أغسطس 1947م, اقتراح التقسيم وكرسته بقرار رقم (181) وفاز بأكثرية 33صوتا, ومعارضة 13, وامتناع 10 عن التصويت، والذين عارضوا القرار: العراق, مصر, السعودية, ايران, لبنان, سوريا, تركيا, أفغانستان, الهند, باكستان, كوبا, اليونان، وكانت بريطانيا ويوغسلافيا بين الممتنعين عن التصويت، فيما أيد القرار الاتحاد السوفيتي وأمريكا وفرنسا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا.

الحرب الأولى
صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم(181) لعام 1947م, فقد طالب بتقسيم فلسطين إلى دولة عربية وأخرى يهودية على أن تكون القدس تحت الوصاية الدولية وقد منحت خطة التقسيم هذه 44% من أرض فلسطين للفلسطينيين ليقيموا عليها دولتهم, في الوقت الذي كان يملك فيه الفلسطينيون آنذاك 94% من الأراضي مقابل 6% فقط لليهود. فكانت هذه الحرب نتيجة حتمية للإرث الفظيع والثقيل الذي خلفه الانتداب البريطاني, وهو إرث تجلت فيه كل معالم المؤامرة المؤقتة والمرتبة على أحسن ما يكون التوقيت والترتيب، إذ أُطلقت يد اليهود في مناطقهم لتأليف عصابات إرهابية, وفي مقدمتها ( الهاغانا والبلماح وشتيرن وارغون), وإنشاء الإدارة العامة التي ستكون أساس قيام كيانهم. وفي المناطق العربية حرصت سلطة الانتداب البريطاني على الاستئثار بكل الصلاحيات والإدارات لمنع العرب من تنظيم شؤونهم استعدادا لإقامة دولتهم المستقلة أو لمواجهة الاستعدادات التي قام بها الصهاينة على مرأى منه وأمام أنظارهم وبعطف كامل من السلطات البريطانية والرعاية التامة وفي مساء التاسع والعشرين من نوفمبر 1947م, انفجرت الاضطرابات, وقررت اللجنة العربية العليا تفشيل قرار الأمم المتحدة الذي رحب به اليهود ترحيبا حماسيا. وبادر كل من الجانبين إلى العمل لترسيخ سيطرته تباعا على المناطق التي تنسحب منها قوات الانتداب. وهذه اللعبة البريطانية فريدة من نوعها في الظاهر بإجلاء قوات الانتداب بعد إعداد الاحتلال الصهيوني من وراء الستار. وكان من البديهي أن تقع المجابهة الدامية الرهيبة بين يهود متأهبين منذ زمن بعيد, وعرب فلسطينيين فوجئوا وكل ما بين أيديهم هو قوة العدالة والحق, وهما من الأسلحة العديمة الجدوى في مجابهة الصهيونية العالمية ومن وراءها. وتميز القتال منذ بدايته بالضراوة المتمادية فكانت اغتيالات على أوسع مدى, وكانت تصفيات جماعية بلغت ذروة الهمجية, لأن اليهود تعمدوا الإرهاب لإكراه الفلسطينيين على مغادرة ديارهم. ففي مقدمة الأهداف الصهيونية المبيتة الاستيلاء على أرض بلا سكان.

قتل وتهجير
وكانت لليهود إدارة منظمة وممثلون منتخبون وكتل سياسية ومنظمات عسكرية سرية. ولم يتسن للفلسطينيين تحت كابوس الانتداب أن ينشئوا أبسط المؤسسات الضرورية لرعاية حياتهم العامة, وهذا ما توخاه الانتداب البريطاني وعمل له طوال أيام عهده على أيدي مفوضين صهيونيين أمثال (هربرت صموئيل) الذي أعطى اليهود كل الأراضي الأميرية الموروثة عن الدولة العثمانية وهي تبلغ أضعاف ما اشتراه اليهود من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين منذ عام 1917م حتى قيام الكيان الصهيوني سنة 1948م .وتبين بوضوح لا يرقى إليه الشك أن اليهود وضعوا خطة تهجير الفلسطينيين واغتصاب ديارهم, وركزوها على دعائم نفسانية مدروسة شرحها (بيريز) في كتابه (إسرائيل وفلسطين) فإذا هي سلسلة من العمليات الإرهابية ترمي الرعب في النفوس. وقد نجحت هذه الخطة نسبيا فنزح من فلسطين حوالي 200ألف من المواطنين الفلسطينيين قبل نهاية الانتداب في 15مايو 1948م. وفي هذا التاريخ كانت منظمة (الهاغانا) العسكرية الإرهابية تبسط سيطرتها على المناطق التابعة للدولة اليهودية بموجب خطة التقسيم باستثناء صحراء النقب, فيما كان الفلسطينيون يشرفون على مناطقهم ما عدا الجانب الغربي من الجليل حيث كانت تدور معارك حامية, أما القدس فقسمت إلى شطرين.

المساندة الأمريكية
في 4أكتوبر 1946م وجه الرئيس الأمريكي ترومان تحيته السنوية إلى اليهود الأمريكان بمناسبة عيد الغفران وفيها زكى فتح باب هجرة اليهود إلى فلسطين على مصراعيه دون انتظار لحل المشكلة وطالب بدخول مائة ألف يهودي إلى فلسطين في الحال وتقسيم فلسطين وفقا للمقترحات التي طالبت بها الوكالة اليهودية وفي رده على أن مساندة الصهيونية سوف يؤثر على مصالح أمريكا في المنطقة العربية رد بقوله: (أن مساندة قيام دولة يهودية كانت دائما من الخطوط الرئيسية للسياسة الأمريكية). ولما كان عام 1948م هو عام الانتخابات الأمريكية فقد اتجه ترومان إلى إرضاء الصهيونيين ومن ثم الانتصارات التي أحرزوها في الفترة الممتدة ما بين 15مايو و2نوفمبر 1948م, حيث عملت أمريكا على العديد من الخطوات لخدمة اليهود وإنشاء كيانهم من حيث.. أولا: اتجاه برامج الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة إلى التعاطف مع المطالب الصهيونية. ثانيا : قرار واشنطن الخاص بتأجيل إرسال العدد الكامل من الضباط لمراقبة الهدنة في فلسطين .ثم قرارها الخاص بعدم ارسالهم.. ثالثا: معارضة الولايات المتحدة في إدراج القضية الفلسطينية في جدول اعمال دورة الخريف في الجمعية العامة للأمم المتحدة.. رابعا: وعد الحكومة الأمريكية بالاعتراف القانوني بإسرائيل عقب اجراء الانتخابات فيها.. سادسا: التصريح الذي أدلى به ترومان حول الحدود خلال الهجوم الذي قام به الصهاينة في النقب.. وهكذا انحازت امريكا وإلى اليوم إلى جانب الكيان الصهيوني منذ البداية وأغمض مسؤولوها أعينهم عن المشكلات التي ترتبت على قيام الكيان الصهيوني. واعتراف ترومان بالكيان الصهيوني بعد دقائق من إعلان قيامه في 15مايو 1948م , كانت الاعتبارات السياسية من وراء قرار ترومان فقد كانت انتخابات الرئاسة على الابواب, بالإضافة إلى رغبة ترومان في ان يسبق الروس في الاعتراف بالدولة الجديدة. وكان بإمكان ابن سعود أن يتخذ خطوة حاسمة لخدمة القضية العربية وذلك بقطع خط أنابيب التابلاين فلو أنه قام بذلك لتبين العالم الخارجي مدى الظلم الذي حاق بشعب فلسطين, ولأدرك الشعب الامريكي الذي اخفيت عنه حقائق الموقف أخطار سياسية شرق اوسطية مبنية على الاستسلام لضغط أقلية يهودية.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا