كتابات | آراء

بوح اليراع: قطرات من بحر الذكريات (2)

بوح اليراع: قطرات من بحر الذكريات (2)

من المعروف أن مؤسساتنا العسكرية العربية قد تأسست على مفاهيم قيمية شرقية أو غربية تتنافى مع مورثاتنا القيمية العسكرية الإسلامية، فخلا معظمها من القيم الإنسانية السامية.


الضابط «محمد رشيد الجرباني» نموذج إنساني
عند ما تمَّ اختيارنا من عدة وحداتٍ عسكرية وتصديرنا للالتحاق بالدفعة العاشرة في (مدرسة المشاة) ورُتب لدخول أغلب الملتحقين بتلك الدفعة بين صلاتي مغرب وعشاء مساء السبت الـ٤ من ديسمبر/كانون الأول عام١٩٨٢، وكان الملازم أول «محمد أحمد علي رشيد الجرباني» الشهير بـ«محمد رشيد الجرباني» مساعد كبير معلمي المدرسة -وكانت رتبة الـ«ملازم أول» آنذاك رتبة ذات ثقل- على رأس الضباط وضباط الصف المعلمين المكلفين باستقبالنا وترتيب أوضاعنا داخل تلك المنشأة التعليمية، باعتبارنا طلابًا عسكريين سيتم إعدادنا وتأهلينا كي نعود إلى وحداتنا معلمين ميدانيين، كان لـ«الجرباني» في التعامل معنا -وهو المستقبل الأقدم والأبرز- أسلوبٌ تعامليٌّ مميز.

رفعة ذوقه وعذوبة منطقه
لاحظت -منذ الوهلة الأولى لوصولنا- على ذلك الضابط الذي اعتُبِر -في ضوء رتبته ومنصبه- رأس المستقبلين- أنه كان يخاطبنا -بعكس جميع المستقبلين الآخرين الذي كانوا يسلقوننا بين الحين والحين بكلماتٍ أحدّ من السكاكين- بعبارات تتسم بالكثير من التأدُّب والتهذُّب واللين، وتنطوي على ما لم نكن نعهده من المشتغلين في السلك العسكري –في ذلك الحين- من معاني التطمين والتأمين، وتوحي لنا بألفةٍ وحميميةٍ غير مسبوقتين من القادة العسكريين دفاعيين كانوا أو أمنيين.

اجتهاده في إكرام الوفادة
وعند ما لمس القائد «الجرباني» -يرحمه الله- تخفزَ زملائه المعلمين الذين شاركوه استقبالنا -شأنهم شأن المعلمين في سائر المنشآت التعليمية العسكرية والأمنية- لصبِّ جامِ غضبهم علينا عبر تناوبهم على إشغالنا بالكثير من الجري والقليل من السير، حتى نقضيَ معظمَ ساعات ليلنا في تجرُّع عشرات الطوابير الهادفة -في الأول والأخير- إلى تدشين دورتنا بالكثير من التنغيص والتعكير، أصدر لهم توجيهاتٍ صارمةً غير قابلةٍ للنقاش بأن يكتفوا بصرفنا -بعد تناول وجبة عشاء ذلك المساء- إلى عنابر السكن الجماعي لمباشرة نصب الأسِرَّة ورصِّ الأزياء وترتيب الفراش، ومن ثمَّ الخلود إلى النوم، لكي نستقبل أول أيام برنامجنا التدريبي والتعليمي بما ينبغي من الحيوية والنشاط والانتعاش، مفوِّتًا عليهم -بتلك التوجيهات المقتصرة على تنفيذ مهام محددة- فرصة موسمية كانوا ينتظرونها منذُ شهورٍ عدَّة، وموفرًا علينا من عناء السهر وتعكير المزاج وإنهاك القوى ما قد يعود عليه من العزيز الوهاب بأعظم الثواب.

امتيازه في مناوبة يوم الإجازة
بالإضافة إلى ما كان من أسلوبه التعليمي الأكثر تأثيرًا وإفادة والمعتمد -في أكثر الأحيان- على إتباع الشرح النظري بالتطبيق العملي بطريقةٍ متجاوزةٍ الطرق التي كانت ما تزال معتادة، فقد كان تعامله الأخلاقي الإنساني الراقي هو الأكثر استحواذًا على الألباب وأهم الأسباب لنيله -رحمة الله عليه- ما لم ينله سائر زملائه من الحب والاحترام والأعجاب.
وقد كانت مناوبة يوم الخميس يوم الإجازة الأسبوعية الذي يتناوب على استلامه المعلمون بصفةٍ عامة هو المحك الذي نفرِّق به وفيه بين الرجالِ العقلاء الأجلاء الذين تجلُّ حلومهم عن الذمِّ والتسفيه وبين «بهائمٍ لبست جلود الناس للتمويهِ».
فبالمقارنة مع ما كان ينالنا من العناء والعنت عند ما يصادف استلام أو مناوبة يوم الخميس لضابطٍ بعينه هو -مع ما يجدُر بي من ضرورة التحفظ على اسمه وتركه وشأنه- برتبة «الجرباني» وفي سنٍّ قريبةٍ من سنِّه، ومع ما كان يهدَر من وقت إجازتنا -بالرغم من ضيقه وقصره- نتيجة تعنت ذلك الضابط وكبره، كان النموذج الإنساني الملازم أول «محمد أحمد علي رشيد الجرباني» إذا ما صادف يوم مناوبته يوم الخميس يعمد -بادئ ذي بدء- إلى تخفيف البرنامج التدريبي والتعليمي اليومي وتقليص وقته، وتوجيه المختصين بمهام إعداد الطعام بتقديم موعد تجهيز وجبة الغداء بحيث لا ننصرف من صلاة الظهر إلا وقد صار الطعام -في الصالة المعدة للتناول- في متناول الآكل، وما إن ننتهي من تناول الطعام، حتى يصرفنا -بمنتهى الاحترام- إلى عنابر السكن كي نتجهز بارتداء زي الإجازة الذي صمم ليعكس عن تلك المنشاة التعليمية صورة ممتازة.
وكنا ننتهي من ذلك الإجراء وننطلق -بأقصى سرعة- إلى أرض الطابور «ميدان التدريب» للتجمع على شكل سرايا، ولم يكن طابورنا يتنظَّم حتى نجد الجرباني [الضابط المستلم] واقفًا بانتظارنا -بوجهٍ متهللٍ وثغرٍ مبتسم- بجوار سارية العلم.
وفور استكمال تنظيم صفوفنا كان يلقي في مسامعنا -على عجل- عددًا محدودًا من النصائح الثمينة واضعًا -في المقام الأول- حثَّنا على حسن الخلق وحسن التعامل وعلى استغلال أوقات إجازتنا الاستغلال الأمثل، ثمَّ لم يلبث -رحمة الله تغشاه- أنْ يصرَفنا –في جوٍّ مفعمٍ بالفرحة والابتهاج- نحو بوابة الخروج رافعًا -بإشارة الوداع- يده، ولسان حاله يقول: (أتمنى لكم إجازةً سعيدة، وحياةً علميةً وعمليةً مثمرةً ومفيدة).

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا