اللواء عبدالله قاسم الجنيد في رحاب الخالدين
ترجل الفارس الذي كُنتُ أراه إنسانُ عيني ، وملء هذا الوجود كُنتُ أراهُ..
بحسابات الزمن لا تتجاوز معرفتي به العقدين من الزمن .ولكن بحسابات التأثير الذي أحدثه فيني وفيمن عرفه فهيَ تتجاوزُ أعماراً وأعماراً ..
لقد شَرُفتُ بأن كنت معهُ ضمن الدارسين في كلية الدفاع الوطني في العام ٢٠٠٩م وكان الشهيد أقدم الدارسين واكبرهم سناً وعقلاً وحكمةً وتواضع .
وأنا أُحاول الكتابةَ عنهُ يتجاذباني شعورانِ متناقضانِ مضطربان .
أحدهما يذكرني بواجبٍ لابدُ منه ،وآخرُ يومئ إلى عجزي وضُعف قدرتي وافتقاري إلى البلاغة والبيان لأقول في الرجل حتى الحد الأدنى مما ينبغي قوله .
ولقد عزمتُ على القيام بالواجبِ ولو بحدوده الدُنيا معترفاً بعجزي وتقصيري له ولأسرته وكل من عرفه لأنهم العارفون بقدرهِ حق المعرفة وبالتالي هم القادرون على معرفة ركاكة ما سطرت لعجزها عن حمل المعنى الذي يليق به ولهذا أتوجه إليهم بالاعتذار ،وحقيقةً فأنا غير قادرٍ في هذه العُجالة على أن أُحيطُ بما رأيت من طهرٍ وفضيلة ،ونبل مقصدٍ ،وسمو أخلاق، وبساطةٍ وتواضع .
وحسبي إني اكتبُ بِصدق علّيْ أُصيبُ مواضع الشعور في تناولي لبعض الخواطر التي رأيتها وسمعتها منهُ وعنه .
معتذراً عن مُجازفتي وجرأتي في محاولة الارتقاء للكتابة عنه ..
لقد كنتُ وكل الزملاء ننتظر في كل صباحٍ باشتياقٍ ولهفةٍ إطلالتهُ المُشرقةُ وضحكته المعروفة التي يبدأها فَمُه ، وتتمُها عيناه ،ويشرحها وجهَهُ كله . ويا لذلك الذي كانت تُحدثهُ في نفوسنا .
وما أظن أحدُنا نظر إليه وهوا يبتسمُ إلا رأى ابتسامته كأنّها كمالٌ يتواضع، فتسودنا الدهشة وكل منا يردد في أعماق نفسهِ يا لعظمة هذا الرجل ..
في خيريته كان حقيقةً على غِرار الأساطير، فقبل أن تعرفهُ كان صعب عليك أن تتخيل في زمن نعيشه ان ترى رجلاً كهذا وكأني به كان يعيش زمناً غيرُ زمن الناس .
فما رأيته يوماً إلاّ وهو مهموماً بما للناس عليه من الواجبات غير مهتمٍ بما له عليهم من حق ، ولقد كان يُلزم نفسه ما ليس يلزمها تجاه كل من عرف .
ولقد شَرفتُ مرةً أُخرى أن كُنت جزءاً من تحرك أراد به الشهيد الإصلاح والعفو عن دماءٍ سُفكت ، لحفظ دماءٍ كادت أن تُسفك ، ولن أنسى كم كانت سعادته حين تكللت جهودنا جميعا بالنجاح ولقد استغرب كثيرون عن سر هذه السعادة التي أبداها وكأنّ من عُفيَ عنه هو ابنهُ او أخيه .
غير مُدركين أن مَردُ ذلك كله أنه كان متيقناً ان لا ضابط لصحة العملِ واستقامته إلا النية الصحيحة المستقيمة .
وان التزوير والتلبيس كلاهما سهلٌ ميسورٌ في الأعمال، ولكنهما مستحيلانِ في النيةِ إذا خَلُصت ..
بالجمال رُوحك أخي الخالد عبدالله فلكم تنسمت أرواحُنا وأنت تترنم دوما بقصيدة ولد الهُدى فالكائنات ضياءُ، وكأننا لم نسمعها من قبلُ ومازال صدى الكلمات يسري في خواطرنا لأنك كنت تستوحي الجمال حين يتألْه الجمال في قلبك ..
كثيرةٌ هي المواضيع التي كنّا نناقشها وتستفيض كعادتك في تناولها بالتحليل القادر على التنبؤ بالمستقبل ومعرفة ما يمكن أن يحدث قبل حدوثه .
ولقد كنت دائم التأكيد على أنه حين تسقط هيبة الدولة يصبح التغيير أمراً محتملاً للغاية وقد كان .
عبدالله يا طُهر الطُهرِ وصِدق الكلمة ونُبل الموقف . لا أدري من أواسي بفراقك ؟ نفسي ؟ فما أحوجها لذلك بقيتك من اهلك ؟ فما عسى القائل أن يقول ؟أُسرتك من آل الجنيد ؟رفاق دربك وكل محبيك ؟كل شرفاء شعبنا ؟
جميعهم عاشوا هول الفاجعةِ وذاقوا مرارة الألم من الجريمة النكراء والاغتيال الغادر لتحالف العدوان الذي مثل واحدة من المآسي الإنسانية لشعبنا، عزاءنا جميعاً انّك بعد تاريخ كله حلمٌ ، وبذلٌ ، وتضحية.. كله صدق ومحبةً ونقاء وإخلاص .
إنْ شاءت الأقدار أن يُدوّن في أسلوبٍ من أساليب البقاء فكانت الشهادة ، وأيّما شهادة ؟
إنّها قبسٌ من كربلاء المقدسة .
عظيم المواساة لكل أبنائك خريجي كلية الطيران والدفاع الجوي الذي كنت لهم القدوة والمثل كنت لهم أباً حنوناً وقائداً استثنائياً استطاع بحكمته وكفاءته ان يضيف إلى معارفهم العلمية قيماً نبيلة وأخلاقاً فاضلة ولقد كنت بحق تعبيرٌ عن تلك المعاني والقيم التي وضعتها في أنفسهم أمانةً ليخاطبوا بها نفوساً آتية في المستقبل .
عزاءنا كذلك لزملائك ورفاق دربك الطويل ، ولقيادة وزارة الدفاع ورئاسة هيئة الأركان بهذا المصاب الجلل .
وقبل أن أختم هذه الخواطر أتوجه إلى أخي الفاضل احمد قاسم أخو الشهيد الذي لم يغب ذكره في كل اتصال من الشهيد أو لقاءٍ به ولقد كنت أشعر وهو يتكلم عنك كأنما يتعبد الله بذلك .
إلى رفيق الشهيد محمد عبدالواسع لقد كنت اعتقد قبل أن أراك وعيناك تفيض بالدمع انه ليس هناك أخف وزناً من الدمع فجعلتني أشعر بأنه لا شيء أثقلُ من الدمعِ على النفس .وحين رأيتك كأني أرى بناءً يتهدم .
وكل العزاء إلى كل جموع المشيعين الحاملين النعش والسائرين وراءه وهم ينظرون إليه وكأنه جبلٌ على أيدي الرجالِ يسيرُ لا يصرفون عيونهم عنه حباً فيه وشوقاً إليه وحزناً وأسىً عليه ، وكأني بالملائكة تحف بالنعش فرحةً بارتقائه إلى عالم الخلود .
أخيراً أقول والألم يعصرني لفقدك .. لقد تركت فراغاً لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال ملأه خاصة لكاتب هذه السطور، فراغٌ ينافي كل ما قيل عن الفراغ من انه يشد إليه ما حوله لأنه يبحث عن الامتلاء والحقيقة أنّ لا وفاءَ كوفائك ولأصدق كصدقك ولا نُبل كنبلك لقد كنت دائم السؤال عني كثير المتابعة دائم الحضور داعياً ومؤملاً وراجياً لي من الله كل خير وعافيه ..
فعهداً لك أن لا ننساك أبداً ماحيينا ..
نسأل من الله لك ولأهلك الذين ارتقوا معك شهداء ولكل شهداء شعبنا المجاهد الرحمة والرضوان والخلود
والمجد لشعبنا الحر الأبي ولا نامت أعين الجبناء..
ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم "إنا لله وإنا إليه راجعون"..