أخبار وتقارير

القهوة ..  من شراب الصوفية إلى مجالس الفكر والأدب

القهوة .. من شراب الصوفية إلى مجالس الفكر والأدب

علي الشراعي
رافق ظهور البن والقهوة حركة فكرية وأدبية كبيرة ازدهرت على المستويين العربي والعالمي في كافة فروع الأدب والفكر فقد أزدهر الشعر والقصة والموسيقي وغيرهما

فمن الناحية الفكرية والأدبية  كان هناك نتاج فكري كبير ظهر كنتيجة لظهور البن فقد ألهمت القهوة الشعراء لنظم العديد من القصائد والمقطوعات الشعرية التي تغنوا فيها بالقهوة مبرزين محاسنها وفوائدها .

قهوة الشاذلي
نسب اكتشاف البن واستعمال القهوة إلى ثلاثة من شيوخ الصوفية هم الشيخ علي بن عمر الشاذلي المتوفى سنة 821هجرية الموافق 1418م والشيخ محمد بن سعيد الذبحاني والشيخ أبو بكر عبدالله العيدروس وقد رجح بعض المؤرخين كعبدالرحمن بن محمد العيدروس وعبدالقادر الجزيري ويحيى بن الحسين بن القاسم وغيرهم أن يكون الشيخ الصوفي علي بن عمر الشاذلي المكتشف الأول للبن وأنه أول من استعمل شراب القهوة المستخلص منه في اليمن .
فيذكر المؤرخ عبدالرحمن بن محمد العيدروس في كتابه ( إيناس الصفوة بأنفاس القهوة ) أن أول حدوثه أي شراب القهوة أواخر القرن الثامن الهجري باليمن المبارك ومنشئه الشيخ الإمام قطب الوجود أبو الحسن علي الشهير بالشاذلي بن عمر بن ابراهيم بن أبي بكر , فيما أورد المؤرخ عبدالقادر الجزيري في كتابه ( عمدة الصفوة في حل القهوة ) قوله (... والذي بلغنا عن جمع يصل حد التواتر أن أول من أنشأها وأظهرها وبأرض اليمن أشاعها واشهرها سيدنا العارف بالله تعالى علي بن عمر الشاذلي ) ولا يعد علي بن عمر الشاذلي المكتشف الأول للبن والقهوة في اليمن فحسب ولكن أيضا حامي جميع المقاهي في المخا وقد ذكر الرحالة الألماني نيبور أن أهل مدينة المخا كانوا يكنون له احتراما كبيراً كما كانوا يذكرونه في مقهى المدينة كل يوم ( عندما يقرأون الفاتحة ويحمدون الله أنه عرفهم بواسطة الشاذلي على استعمال البن ويطلبون له ولذريته الرحمة ).
 فالمتصوفة كانوا من أوائل من اعتاد شرب القهوة حيث أنها كانت تعينهم على السهر للتعبد وقيام الليل  .
يا قهوة تذهب هم الفتى
أنت لحاوي العلم نعم المراد
شراب أهل الله فيها الشفا
لطالب الحكمة بين العباد
نطبخها قشراً فتأتي لنا
في نكهة المسك ولون المداد
قصائد الصوفية
ولما كان الشعر هو ديوان العرب كانت القهوة حاضرة في أشعارهم ولم يقتصر تمجيد الشعراء للقهوة على منطقة أو بلد دون غيرها فحب الشعراء للقهوة قد أثار قرائحهم فانبروا يتغنون ويتغزلون بها سواء من اليمنيين أو من غيرهم , ومع بداية اكتشاف البن والقهوة من قبل الصوفيين والتي يعود السبق والفضل لهم بهذا المضمار ظهرت العديد من القصائد الصوفية التي مجدت القهوة واعتبرتها خمرهم الذي لا غنى لهم عنها فهي الشراب السحري الذي يساعدهم على السهر من أجل أداء شعائرهم الدينية والتعبد وقد أبدع الصوفيون الكثير من القصائد التي تغزلوا فيها بالقهوة ومن تلك القصائد قصيدة نسبت إلى الشيخ الصوفي علي بن عمر الشاذلي وهو الذي تنسب إليه بداية استعمال القهوة في اليمن تغني فيها بحروف كلمة القهوة وشرح أسباب استعماله لها
قهوة البن يا اهل الغرام
ساعدتني على طرد المنام
وأعانتني بعون الله على
طاعة الله والناس نيام
قافها القوة والهاء الهدى
واوها الود والهاء الهيام
لا تلوموني على شربي لها
أنها شرب سادات الكرام
لم يفتأ الصوفيون يتغنون بالقهوة في كثير من أشعارهم واصفين كل شيئا فيها ومتغنين بكل ما فيها ومنتقدين كل من يعاديها كانت نتيجة ذلك ظهور عدد كبير من القصائد .

مناظرات شعرية
إن الانقسام الذي أحدثه ظهور البن وشراب القهوة في اليمن ومكة ومصر وغيرها من البلدان العربية والإسلامية لذا كل فريق حاول الدفاع عن وجهة نظره في القهوة شعرا كما قام كل فريق بانتقاد وجهة نظر الفريق الآخر مما أثرى الحياة الأدبية بقصائد عديدة ومتنوعة والتي ساهمت في انتشار القهوة في كل مكان , وأن حركة المعارضة لشرب القهوة قد شكلت مادة غنية للشعراء لذلك ظهرت العديد من المناظرات الشعرية والتي لم تقتصر على الشعراء بل شملت علماء الدين الذين كانت ترد إليهم بعض الأسئلة يريد أصحابها الفتوى حول مشروعية القهوة شعرا .
لقد أجاد اليمنيون في التغزل بالقهوة شعرا إلى درجة وصفهم أدق التفاصيل عنها فقد نظم عمر بن عبدالله با مخرمة  المتوفي عام 1545م قصيدة طويلة ذكر فيها شروط إعداد القهوة وآداب شربها . وتمكنت القهوة من فرض نفسها على الشعراء  لذلك فإنهم يعبرون عن ذلك شعرا  ومنهم الشاعر المصري إبراهيم المبلط الذي رد فيها على منتقدي شاربي القهوة بقوله :
يا عائبا لشراب قهوتنا التي
      تشفي شفاء الناس من أمراضها
أما تراها هي في فنجانها
    تحكي سواد العين وسط بياضها
في الأدب الأوروبي
لم يكن الشعراء العرب وحدهم من عبّر عن مشاعرهم تجاه القهوة ولكن عبّر الشعراء الأوروبيين أيضا عن مدى أعجابهم بالقهوة شعرا فقد أثار هذا الشراب حماسة الشعراء فجاءت قصائد مجدت القهوة ورفعت منزلتها في أوروبا ومن ذلك قصيدة غنائية من نظم فوزليه
أية لذة تعادل لذتك
حين تعدك يدا ماهرة
تكفي رائحتك لامتلاك
من لم يختبر سحرك
 ففي كتاب  ( اكتشاف جزيرة العرب ) لمؤلفه ماكلين بيرين اشار : ( لقد شاع استعمال البن في فرنسا إلى درجة رسخ معها في أذهاننا الاعتقاد بأنه كان مستعملا عندنا منذ أقدم الأزمنة وشق علينا التصديق بأن استعماله لم ينتشر في بلاد المشرق إلا منذ أربعة قرون خلت في حين أنه لم يمض على استعماله في بلاد أوروبا أكثر من قرنين  ولم نعد نتصور قط الحماسة التي أثارها عبر أوروبا في الشعر الغنائي ظهور هذا المشروب وكان دي لاروك ابن رحالة كبير من مرسيليا جاء بالبن إلى فرنسا لاستعماله الخاص سنة 1644م حتى انه نشر نخبة من القصائد باللاتينية والفرنسية ولم يأنف ألمع رجال الفكر والأدب من نظمها في مدح (هذا المشروب المفيد) والذي خصه (جان سيباسقيان باخ) نفسه بأحد ألحانه .

تبادل ثقافي
لقد منح اليمنيون  المجتمع الأوروبي القهوة وما نتج عنها من عادات وسلوكيات وطقوس اجتماعية بل وحتى أدوات وأسماء وغيرها وهو نوع من التبادل الحضاري والثقافي الناتج عن تبادل السلع فقد تحول البن إلى مكون أساسي في حياة الأوروبيين الثقافية كما تحول إلى مكون أساسي في حياتهم الاجتماعية كما ذكرت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه  في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب ) ( فالقهوة التي تنعشون بها حياتكم اليومية  وحب البن وكذلك الطاسة التي تتناولون بها القهوة المغلية والسكر الذي تكاد لا تخلو منه أية لائحة طعام في المطعم وعصير الليمون كل هذه الأشياء إنما أخذناها عن العرب وأخذنا معها حاجات أخرى لا تزال تحتفظ بأسمائها العربية الأصيلة في كل أنحاء العالم المتحضر ولنا في ذلك اكثر من مثل ).

مقاهي أدبية
لم يكن الشعر هو الفرع الوحيد من فروع الأدب الذي ازدهر نتيجة لظهور القهوة ولكن ازدهر ايضا القصة والموسيقي وغيرها . لقد ازدهرت  القصة من خلال المقاهي وذلك عندما حاول اصحاب المقاهي اجتذاب الرواد من أجل الحفاظ على زبائن المقاهي فقد عملوا على استحداث وظيفة جديدة هي وظيفة الحكواتي  الذي يحكي القصص لرواد المقاهي ويجتذب اهتمامهم مما يؤدي إلى التشويق وإزالة السأم  ولقد أشار الرحالة  نيبور الذي زار اليمن عام 1177 هجرية الموافق 1763م  إلى وجود قصص وحكايات كانت تلقى على مسامع الرواد .
كذلك قدمت  المقاهي دورا كبيرا ايضا في انتشار الموسيقي فقد كانت تدق فيها الدفوف والرباب وغيرها من أدوات الموسيقي التي كانت معروفة في تلك الفترة وتنشد فيها الأناشيد وتغنى الأغاني باعتبارها أماكن تجمعات سكانية ولعل هذا سبب وجود الموسيقي في هذه الأماكن .

مدلولات لغوية
إن كلمتي البن والقهوة بمدلولها اللغوي الحالي لم يكن موجودا في المعاجم العربية القديمة كلسان العرب لأبن منظور والقاموس المحيط للفيروز آبادي وغيرهما وإنما وجد نفس الرسم لهذه الكلمات ولكن بمعاني أخرى فكلمة البن مصدرها في معجم لسان العرب (بَنَنَ) وتعني ( الريح الطيبة كرائحة التفاح ) أما القهوة فقد اشتقت من القِهَة وهي طيبة الرائحة نقلها الصالحون إلى شراب البن والقشر  ,  لقد نتج عن الاستخدام اليومي للقهوة بشكل كبير وجود الكثير من الكلمات الجديدة التي ارتبطت بالقهوة لغة ومعنى ومنها ايضا اشتقت كلمة مقهى ومقهاية وجمعها مقاهي كما اشتقت منها المقهوي والمقهوية .  

حقوق الملكية
ومن الأمور المهمة التي لاحظها الرحالة الألماني نيبور الذي زار اليمن عام 1763م بناء على رغبة الملك الدنمركي فردريك الخامس ( إن اليمنيين كانوا يوقعون عقوبات صارمة على كل من يحاول أن ينقل شجرة البن خارج اليمن ) وقد يكون فرض تلك العقوبات لحرص اليمنيين على احتكار تلك السلعة التي أصبحت في تلك الفترة سلعة نقدية ومورداً اقتصادياً ذات مردودات مالية كبيرة .

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا