أخبار وتقارير

أوكرانيا على خط الأزمة بين موسكو  وواشنطن «1-2»

أوكرانيا على خط الأزمة بين موسكو وواشنطن «1-2»

ازدادت الأهمية الاستراتيجية لأوكرانيا بعد انهيار الكتلة الشرقية (حلف وارسو) ومن ثم الاتحاد السوفيتي في سلسلة الأحداث الكبرى منذ 1991-1989م

التي وضعت نهاية للحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفيتي إلى دول مستقلة كانت أوكرانيا من بين هذه الدول التي أعلنت استقلالها في 1991م.

أحداث الثورة الأوكرانية التي تفجرت في 2004 م وتصاعد مساراتها هي التي سرعت بخطوات الكرملين لضم شبه جزيرة القرم في 20 مارس 2014 م بعاصمتها سيمفروبل ورافق الضم تدخل عسكري روسي في أعقاب أحداث 2014م التي أطاحت بالرئيس فيكتور يانكوفيتش الموالي لروسيا الذي علق اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في 21 نوفمبر 2013 م وهو ما أثار غضب القوميين الأوكرانيين وفر يانكوفيتش والعديد من وزرائه من العاصمة كييف في 22 فبراير 2014 م وكان البرلمان الأوكراني قد صوت على إقالته.

اتفاق التسوية
فوجئ بوتين بالتسارع الكبير في الأحداث الأوكرانية بعد أن اعتقد أنه نجح بالدعم المالي الهائل الذي قدمه للرئيس الأوكراني السابق لإيقاف عجلة الشراكة الأوكرانية مع الاتحاد الأوروبي. وحتى بعد تصاعد وتيرة الثورة فإن روسيا قبلت  على مضض بتوقيع يانكوفيتش اتفاق التسوية مع ممثلي المعارضة بوساطة أوروبية في 21 فبراير 2014م إلا أن الرئيس الروسي بوتين لم يتوقع بأن يرفض المعارضون الأوكرانيون الاتفاق وأن يدفعوا باتجاه الإطاحة بالرئيس يانكوفيتش وإدارته كما لم يتوقع هروب يانكوفيتش من المواجهة.
وفي 23-22 فبراير 2014م عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اجتماعاً طوال الليل مع رؤساء الأجهزة الأمنية لمناقشة الوضع الأوكراني وتخلي فيكتور يانكوفيتش عن السلطة وفي نهاية الاجتماع قال:  "يجب علينا أن نبدأ العمل على إعادة شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وفي 23 فبراير أقيمت مظاهرات موالية لروسيا في مدينة سيفاستوبل عاصمة القرم واستولت القوات الروسية على المجلس الأعلى أو ما يُعرف ببرلمان القرم في يوم 27 فبراير كما استولت كذلك على مواقع استراتيجية في جميع أرجاء شبه جزيرة القرم مما أدى إلى تنصيب حكومة سيرغي أكسي ونوف الموالي لروسيا على شبه الجزيرة وإجراء استفتاء شعبي وإعلان استقلالها في 16 مارس 2014م وتزامن ذلك مع إعلان الكرملين عن ضمّ شبه جزيرة القرم لروسيا في 18 مارس  2014م.

السلامة الإقليمية لأوكرانيا
أدانت أوكرانيا وحكومات الدول الغربية الضم والإجراء الذي قامت به روسيا ورفعت من مستوى خطابها بأن اعتبرت ذلك انتهاكاً للقانون الدولي والاتفاقات الموقعة بين روسيا والمحافظة على السلامة الإقليمية لأوكرانيا بما في ذلك الاتفاق المتعلق بإقامة رابطة الدول المستقلة عام 1991م واتفاقات هلسنكي ومذكرة بودابست بشأن الضمانات الأمنية 1994م ومعاهدة الصداقة والتعاون والشراكة بين الاتحاد الروسي وأوكرانيا وأدى ذلك إلى قيام مجموعة الثماني حينها بتعليق عضوية روسيا في مجموعة الثمان ثم طرح حزمة أولى من العقوبات ضدها ورفضت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاستفتاء وضم القرم لروسيا واعتمدت قراراً غير ملزم يؤكد السلامة الإقليمية لأوكرانيا ضمن حدودها المعترف بها دولياً، كما أن قرار الأمم المتحدة يؤكد أن الاستفتاء ليس له صحة ولا يمكن أن يشكل الأساس لأي تغيير في وضع شبه جزيرة القرم وأهاب القرار بجميع الدول والمنظمات الدولية عدم الاعتراف بضم القرم لروسيا، وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أكدت مجدداً في 2016م عدم الاعتراف بالضم وأدانت ما أسمته بالاحتلال المؤقت لجزء من أراضي أوكرانيا- جمهورية القرم المتمتعة بالحكم الذاتي وعلى السياق ذاته يعارض الاتحاد الروسي تسمية "الضم" حيث دافع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الاستفتاء عملا بمبدأ حق تقرير المصير للشعوب وقال رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف في يوليو 2015م أن القرم قد اندمجت تماماً في روسيا.

جنوح أوكرانيا المتعاظم
وشهدت العلاقات الأوكرانية الروسية الكثير من أحداث وفترات التوتر لكنها لم تبلغ حد العداء إلا في نهاية 2004م عندما اشتعلت في أوكرانيا ثورة برتقالية ميّالة نحو الغرب عندها دخل الغرب بقوة على خط الأزمة وداعما في انحيازه للثورة الأوكرانية وأخذ المشهد الأوكراني بُعدا آخر تعاظم فيه التوجه الغربي والدور القومي الأوكراني على حساب انحسار أدوار وتأثير الموالين لروسيا حيث يرى محللون أن سبب ضم القرم والحرب في اقليم الدنباس يعود إلى حقيقة أن روسيا لم تعد بعد 2014م قادرة على إبقاء أوكرانيا في صفها سياسيا وشعورها أن جنوح أوكرانيا المتعاظم نحو الغرب بات يشكل خطرا عليها خاصة وأن كييف تخلت عن صفة عدم الانحياز وسعت  علنا إلى تقديم نفسها رسميا للانضمام لعضوية حلف الناتو فيما يرى خبير الشؤون الأوكرانية في مركز "الأطلسي" للدراسات الكاتب بيتر ديكنسون:" أن حقيقة تراجع الرغبة الشعبية بالعودة إلى علاقات الماضي مع روسيا وغياب الحنين إلى فترات الوحدة معها (في ظل الاتحاد السوفيتي) أمر باعد بين الدولتين وقد يشكل عدوى بين الدول الأعضاء في الاتحاد الروسي وتحرص روسيا منذ استقلال أوكرانيا في 1991م إثر انفراط عقد الاتحاد السوفيتي على تعزيز هذا النفوذ وعلى إعادة بناء علاقات سياسية مستقرة ودائمة مع أوكرانيا سواء على مستوى العلاقات الثنائية أو ضمن إطار الاتحاد الأورو-آسيوي الذي يعتقد الرئيس بوتين أن أوكرانيا ستكون حجر زاويته إذ بدون أوكرانيا في الحقيقة يفقد الاتحاد الأورو- آسيوي معناه الكلي، لكن ما يجري هو المختلف تماما لتفكيك بنية الروابط التاريخية والاقتصادية والسياسية والديمغرافية والثقافية بين أوكرانيا وروسيا التي تمر الآن بأخطر مراحلها مع تصاعد التدافع نحو الغرب ما قد يشكل خطرا على مستقبل أوكرانيا وشعبها وبين الروس والكتلة الغربية، لذلك فإن روسيا ترفض عضوية أوكرانيا في أي تكتل غربي وخاصة حلف الناتو وتعتبر ذلك تهديدا مباشرا لأمنها القومي. وبحسب خبراء ومحللين فإن روسيا تسعى إلى عرقلة مساعي أوكرانيا في ذلك التوجه والإبقاء عليها منطقةً رمادية فاصلة مع القوى الغربية كأقصى ما يمكن بعد أن بات خيار اقامة علاقات ثنائية وتحالفات استراتيجية مستبعدا وهو ما جعل أوكرانيا ساحة حرب بين روسيا والغرب في منطقة الدنباس.
وهنا يبرز السؤال المحوري ماذا تعني أوكرانيا بالنسبة لروسيا الاتحادية وكذلك شبه جزيرة القرم؟

الإطار المستقبلي
يبدو أن أوكرانيا ذات أهمية كبرى من وجهة نظر الكتلة الغربية والاتحاد الأوروبي في اتصال الجوار والمساحة والسكان فهي أكبر دولة أوروبية خارج الاتحاد الأوروبي الذي يسعى لأن تكون الإطار المستقبلي للقارة ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا وهي استراتيجيا ليست خارج حسابات حلف الناتو من حيث الإطار الأمني إلى جانب أنها تشكل الممر الرئيس لأنابيب النفط والغاز الروسي إلى أوروبا الغربية من جهة ثانية لا تتعلق مشكلة أوكرانيا بوجودها في هذا الجوار الحرج وحسب بل أيضًا في تكوينها كدولة قومية حديثة بخلاف دول مثل ألمانيا وإيرلندا حيث تعبّر الدولة عن هوية أثنية متجانسة ويُعتبر وجود الدولة نفسها هو الضامن لهوية أوكرانيا الموحدة التي يتشكّل شعبها من أغلبية أوكرانية وأقلية روسية لا تقل عن 18 بالمائة من السكان أقلية معتبرة بين سكان المقاطعات الثماني الشرقية من مقاطعات البلاد الأربع والعشرين بينما يشكل الروس الأغلبية في جمهورية شبه جزيرة القرم ذات الحكم الذاتي. فالمقاطعات الشرقية والجنوبية على وجه الخصوص لا تتحدث أغلبية السكان اللغة الروسية وحسب ولكن هناك صلات الانتماء السكاني الروسي والعلاقات التجارية والصناعية والعائلية بروسيا الاتحادية عبر الحدود تمتد إلى عقود طويلة وربما قرون. ومن المعروف أن الأوكرانيين والروس والبيلاروس متقاربون ثقافيا وهم يشكلون فرعاً محددا من العرق السلافي (الذي يشمل أغلب شعوب شرق أوروبا) يطلق عليه "السلافيون الشماليون" وتحول هذا العرق إلى شكل الدولة لأول مرة في أوكرانيا وليس روسيا قبل أن ينتقل المركز الحضاري للسلاف الشماليين إلى موسكو بسبب الغزوات المغولية فأوكرانيا تعني الكثير لروسيا بل وللقومية الروسية في كييف ومحيطها فهي أول موطن للروس وكانت أوكرانيا في القرن العاشر الميلادي المهد الأول للأرثوذكسية الروسية.

التواطؤ مع المحتل النازي
وكانت شبه جزيرة القرم تقع تحت سيطرة اليونانيين والرومان لقرون عدة وفي عام 1443م أصبحت مركز دولة التتار وقد تعرضت أوكرانيا لغزوات يونانية ورومانية وتترية وبولندية كبيرة وخضوعها لحكم البولنديين والتتار لقرون فإن روسيا القيصرية طردت الدولتين ثم سيطرت على أوكرانيا وحاولت سواء في العصر القيصري أو السوفيتي فرض التأثير الروسي على البلاد فيما مثل استيلاء الروس عليها في 1773م انتقالة كبيرة في مصير روسيا القيصرية لكن ما لبث أن استولى عليها لاحقا العثمانيون طوال خمسة قرون  بعد معارك حرب القرم في منتصف القرن الثامن عشر التي وقفت فيها بريطانيا وفرنسا إلى جانب العثمانيين وانتهت بهزيمة فادحة للروس بعد حصار طويل لمدينة سيفاستوبل التي صمد فيه الجنود الروس وقتا طويلا للدفاع عن المدينة ومحاولة فك الحصار أظهر فيها المدافعون بطولات نادرة في  حادثة خلّدها دوستوفيسكي في إحدى رواياته التي ظلت محفورة في الذاكرة القومية الروسية.
وبالرغم من أن سياسة القوميات السوفيتية جعلت أوكرانيا إحدى الوحدات الفيدرالية للاتحاد السوفيتي إلا أن فترات استقلال أوكرانيا عبر التاريخ كانت قصيرة وعابرة ففي أغلب تاريخها انقسمت هذه البلاد التي تُعرف اليوم بأوكرانيا بين الإمبراطوريات (الروسية والنمساوية- والهنغارية والبولندية-والليتوانية) وإن كان لروسيا ثلاث بوابات رئيسة: وسط آسيا والقوقاز وأوكرانيا فإن الأخيرة هي أخطرها على الإطلاق فعبر السهل الأوكراني مرّت الجيوش الأوروبية الغازية لروسيا في حربين فادحتين وبالغتي الأثر على رؤية الروس القومية لذاتهم وعلى رؤيتهم لشروط بلادهم الجيوسياسية: الحرب النابليونية والحرب الألمانية النازية  إحتل النازيون الألمان شبه جزيرة القرم 1940م واتهم الزعيم السوفيتي ستالين حينها تتار القرم بالتواطؤ مع المحتل النازي وقام بتسفيرهم إلى آسيا الوسطى وسيبيريا في 1944م في عملية تهجير قسرية كلفت أرواح الكثير منهم ولم يسمح لهؤلاء التتار بالعودة إلى موطنهم الأصلي في القرم إلا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لذلك أن تخسر روسيا أوكرانيا ليست خسارة جيوسياسية وحسب بل خسارة لجزء من التاريخ الوطني والذاكرة ومكونات الهوية الروسية.

خيارات موسكو
ولعل نظرة واحدة إلى الخارطة الأوروبية توضح حجم هذه الخسارة ودلالاتها لأمن روسيا ففي جوار البحر الأسود يتقدم الغرب إلى بلغاريا ورومانيا إضافة إلى وجود تركيا ضمن حلف الناتو بمعنى أن روسيا حتى وإن سيطرت على القرم ستواجه في البحر الأسود جوارًا من أعضاء حلف الناتو أو الصديقة له. وفي الشمال الغربي للقارة الأوروبية يتقدم الغرب في عملية احتواء استراتيجي غير مسبوق لضم دول البلطيق الثلاث (السوفيتية السابقة) [إستونيا-لاتفيا-ليتوانيا] إضافة إلى  بولندا فما هو متوقع في حال وقّع نظام كييف الجديد اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي فإن ذلك قد يدفع جورجيا ومالدافيا لتوقيع اتفاقيات مشابهة ويبدو تحالف روسيا مع   بيلاروسيا التي تقع ضمن القارة الأوروبية يشكل أهمية قصوى  وعلى الحدود المشتركة مع أوروبا ومع دول البلطيق التي اخترقها الغرب في إقامة تحالفات معها ذلك ما يجعل  روسيا تبدو مهددة بحصار غربي من اتجاهات عديدة وتشكل  أوكرانيا أكبر تهديدا كونها تقع على التماس الحدودي معها ومع الجوار الأوروبي وأمن الأسطول الروسي في البحر الأسود ومرفأ سيفاستوبل الذي يشكل قاعدة ضخمة للبحرية الروسية، وفي الحقيقة أن هذا التهديد لأمن روسيا لم يحدث من قبل منذ نهاية القرن الثامن عشر بيد أن خيارات موسكو محدودة فغزو أوكرانيا واحتلالها لم يعد ممكنًا ليس فقط لاعتبارات دولية ودبلوماسية ولكن لحجم العداء لروسيا بين ملايين الأغلبية الأوكرانية في وسط وغرب البلاد في الوقت ذاته فإن القبول بما حدث لا يعني هزيمة استراتيجية وحسب بل ويحمل مخاطر التأثير على الداخل الروسي نفسه وهذا ما دفع موسكو للتحرك العسكري في شبه جزيرة القرم وعلى الحدود مع مقاطعات أوكرانيا (لوجانسك) و(دانسك) والسيطرة على القرم حيث يتمتع السكان الروس بأغلبية  مقابل التتار المسلمين من سكان شبه الجزيرة الأصليين والأوكرانيين وهي محاولة رد محدودة على خسارة جيوسياسة كبرى لتقليل حجم هذه الخسارة وليست خيارات موسكو فقط ولكن خيارات القوى الغربية هي الأخرى محدودة فقد كان الأوروبيون هم وسطاء اتفاق 21 فبراير 2014م ولكنهم لم يستطيعوا الحفاظ عليه وقبلوا تجاوزه خلال ساعات فقط من توقيعه ولا يمكن تمرير أي قرارات في مجلس الأمن لوجود روسيا والصين ومن المستحيل أن تستطيع الدول الغربية الحصول على قرار أممي ضد روسيا وحتى استخدام سلاح العقوبات من جانب الولايات المتحدة  يبدو محفوفًا بالمخاطر ليس فقط لأن روسيا تستطيع الرد على أية عقوبات مالية بمثلها ولكن أيضًا لحاجة عدد من الدول الغربية بما في ذلك ألمانيا لإمدادات الغاز الروسي.  فالتعاطف الأوروبي مبرره سياسي ليس من أجل أوكرانيا وإنما للوصول بأجندات القوى الاستعمارية لتهديد أمن واستقرار روسيا ومحاولة إشغالها عن العودة إلى المسرح الدولي وتشبيك علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية مع العالم بعد أن اعتقدوا موتها النهائي. لهذا تعمل الولايات المتحدة جاهدة على توتير مناخات الصراع في منطقة الدنباس والبحر الأسود لتصعيد الأزمة بين أوكرانيا وروسيا وهذا ما يجعل واشنطن  تناور سياسيا في تصعيد الأزمة في شبه جزيرة القرم مع روسيا وتعتبر عملية الضم حالة غير مسبوقة في تاريخ أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في استخدم دولة القوة وسلاح الانتماء القومي لضم أراضي دولة أخرى هذا هو الهدف لجعل روسيا تواجه للمرة الأولى في التاريخ الحديث والمعاصر النفوذ الغربي على حدودها  الجنوبية والشرقية معًا.                                                          ....... يتبع.....

المستقبل الجيوسياسي لأوكرانيا
ضم موسكو لشبه جزيرة القرم مثل استباقا استراتيجيا لقطع أي سيطرة غربية على البحر الاسود سيما وأن شبه الجزيرة كان جزءًا من روسيا السوفيتية حتى 1954م. ويبدو أن أوكرانيا لم تقدر حجم الاهتمام السوفيتي بالوحدة مع أوكرانيا عندما اتخذ الرئيس السابق خروتشوف( الأوكراني) قرارا بضمها إلى جمهورية أوكرانيا السوفيتية من أجل تعزيز الوحدة بين الروس والأوكرانيين بينما ترى أوكرانيا أن ذلك استحقاقا تاريخيا وجغرافيا لجعلها مسرحا للتدخلات الأجنبية وأساطيلها وسفنها الحربية لفرض أمر واقع للصراع وخنق روسيا من بوابة البحر الأسود ولا يبدو- حتى الآن على الأقل- أن موسكو ستتحرك للسيطرة على إقليم الدنباس فقد قرر سكان الإقليمين الاستقلال عن أوكرانيا واعلانهما جمهوريتان شعبيتان مستقلتان عنها.
ويبدو التدخل الروسي في الدنباس محدودا نظرًا لعدم وجود أغلبية روسية قاطعة ولما تمثله مثل هذه الخطوة من تصعيد للأزمة. كما لا يبدو هناك بروز قيادة أوكرانية سياسية تجد طريقا للموازنة بين الضروريات الاستراتيجية الروسية والتقارب مع الاتحاد الأوروبي في الوقت الذي أصبح فيه مثل هذا التوجه أقل احتمالاً بعد استفتاء القرم وإن كان لا يجب استبعاده في المدى المتوسط. والواضح أن أوروبا والكتلة الغربية قدمت من المساعدات لأوكرانيا لعودة الاستقرار النسبي وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية سريعة ونصحت القادة الأوكرانيين الجدد بالتعايش مع فقدان القرم لكن من دون الاعتراف بشرعية الاستفتاء لضم شبه جزيرة القرم لروسيا انتظارًا لجولة تفاوض أخرى تصل إلى توافق حول المستقبل الجيوسياسي لأوكرانيا وهذا بالتأكيد له دلالة في قرار البرلمان الأوكراني قبل يوم واحد من الاستفتاء بحل برلمان شبه جزيرة القرم بمعنى أنه أصبح كيانًا غير شرعي من وجهة نظر كييف وكل ما يصدر عنه من قرارات هي بالتالي غير شرعية.
وعلى خلفية الأزمة الأوكرانية منذ 2014م فرضت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وغيرها كثيراً من العقوبات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية على روسيا التي أُبعدتها بداية عن مجموعة الثماني الكبار ثم عن المشاركة في أروقة البرلمان الأوروبي وتأجيج الصراعات ودعمت تلك الدول أوكرانيا بمساعدات مالية كبيرة موجهة بشكل رئيس نحو الإصلاحات الرامية إلى تطبيق معايير العضوية في الاتحاد الأوروبي والناتو وكذلك نحو مجال مساعدة النازحين عن مناطق الحرب والتوتر في الدنباس.
ولعل أكبر هذه المساعدات وأكثرها "قوة" كانت من طرف الولايات المتحدة وجاءت على شكل مساعدات عسكرية ونظم أسلحة وصواريخ وتدريبات مشتركة بحجم بلغ نحو ملياري دولار وفق السفارة الأمريكية لدى أوكرانيا.
وهنا يبرز تساؤل آخر كيف لروسيا أن تواجه هذا التحدي الغربي وخصوصا وأنها ترى في دعم أوكرانيا سبيلا لمواجهة روسيا ومحاولة مد نفوذها للسيطرة على إقليم الدنباس؟

مواجهة الأخطار
أمام هذا الوضع الناشئ فإن روسيا تجد نفسها مضطرة لمواجهة الأخطار التي تتهددها لا سيما ما تفرضه أوكرانيا من تحديات كبيرة ومحاولاتها المستميتة السيطرة على إقليمي الدنباس (دانسك) و(لوجانسك) خاصة وإن من بين أسباب التوتر بين روسيا وأوكرانيا خط أنابيب الغاز《نورد ستريم 2》[السيل الشمالي 2] إلى ألمانيا الذي تعمل عليه روسيا منذ أوائل 2020م وكانت على وشك الانتهاء من خط أنابيب الغاز الذي يمر عبر بحر البلطيق وتعتبر أوكرانيا أن هذا الخط سوف يحرمها من الإيرادات الأساسية للغاز الروسي بينما كانت ألمانيا أكثر بلدان أوروبا حماسا له وتحاول الولايات المتحدة فرض ضغوطات على المانيا بشتى الطرق لإيقافه كما لجأت السلطات الأوكرانية إلى فرض قيود كبيرة على اللغة الروسية ومنع تداولها أو التحدث بها بين السكان الأوكرانيين وفرضت غرامات مالية على المخالفين حسب ما أورده موقع آر تي من جهة ثانية قامت  بإغلاق القنوات التلفزيونية الصديقة للكرملين حسب ما أوردته وكالة بلومبرغ الأمريكية بالإضافة إلى استهداف رجال الأعمال الروس وعلى ذات السياق يتبنى الرئيس الأوكراني الحالي فلاديمير زيلنيسكي ومؤسساته خطابا قوميا وتحريضيا ضد روسيا.
وتشهد منطقة شرقي أوكرانيا اشتباكات متقطعة على نطاق ضيق بين القوات الأوكرانية الحليفة للغرب وقوات اقليم الدنباس المدعومة من روسيا. تصاعد هذا الصراع خلق المزيد من تفاقم الأزمات وتوتير الأجواء بين روسيا من جهة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية على كافة الأصعدة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والتجارية وهو ما أدى إلى اتخاذ إجراءات متبادلة لطرد الدبلوماسيين من الجانبين والتلويح بإجراءات عقابية إضافية لإيقاف التحويلات المالية عبر بروكسل إلى روسيا كما لجأت الولايات المتحدة إلى رفع   حالة التأهب للقوات الأمريكية في أوروبا مبررة ذلك ردا على "تصعيد العدوان الروسي" في منطقة الدنباس وشبه جزيرة القرم ولا تخفي الولايات المتحدة تحويل أوروبا لساحات مواجهات جيوسياسة حادة مع روسيا.
قال مسؤول في حلف شمال الأطلسي لوكالة رويترز للأنباء إن روسيا تقوض الجهود الرامية إلى التخفيف من حدة التوترات في شرق أوكرانيا. بينما تحذر  موسكو حلف شمال الأطلسي (الناتو) من إرسال قوات لمساعدة أوكرانيا وسط تقارير تشير إلى احتشاد قوات من الجيش الروسي على الحدود الأوكرانية وعلى الوجه الآخر تدفق المساعدات الأمريكية والتركية  لأوكرانيا بالأسلحة والمعدات الحديثة.
وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف المسؤول في الرئاسة الروسية :" إن روسيا سوف تتخذ إجراءات إضافية إذا أقدم الناتو على مثل تلك الخطوة ونوه إلى أي تصعيد يمكن أن يكون بداية النهاية لأوكرانيا وليست رصاصة في الساق لكن في الوجه حسب تعبيره.

الخطر الحقيقي
التصعيد المتبادل هو ما جعل روسيا ترى هذا التحدي هو الخطر الحقيقي الموجه ضدها من قبل حلف شمال الأطلسي في تنامي هذا الصراع ودعمه اللامحدود عسكريا واستخباراتيا ولوجستيا لأوكرانيا في إدارة حروب بينية طويلة في منطقة الدنباس وتعمل روسيا في المقابل على تحشيد قواتها على حدود أوكرانيا بشكل واسع وتعزز في نشر قطعها الحربية وغواصاتها في البحر الأسود الذي تعتبره منطقة مغلقة أمام التدخلات الأجنبية. هذا التصعيد يعود إلى عدة عوامل ومستجدات من أهمها: تشدد إدارة بايدن مع موسكو فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية والانتخابات إضافة إلى تنامي العلاقات العسكرية بين أوكرانيا والولايات المتحدة وتركيا حيث باتت تركيا مصدرا رئيسا للطائرات المسيرة بالنسبة للجيش الأوكراني والعامل الأخير هو الحملة الإعلامية التي أطلقتها السلطات الأوكرانية ضد نفوذ ورموز المعارضة الموالية لروسيا حيث يصف مراقبون التصعيد الأخير بأنه استعراض للعضلات بين موسكو وواشنطن وهذا قد يفسر حجم التصريحات وتبادل الاتهامات بين الجانبين إلى جانب التصريحات الأوكرانية.
وينظر المراقبون باهتمام إلى تطور موقف أنقرة من الأزمة وهي المعنية أيضا بالحد من تنامي النفوذ الروسي شرقا وشمالا وجنوبا في البحر الأسود وسوريا، وفي هذا الصدد تتعاون تركيا مع أوكرانيا في مجال الصناعات العسكرية حيث باعت لأوكرانيا طائرات مسيرة وسفنا حربية وهناك مشروعات مشتركة لإنتاج صواريخ كروز بينهما مقابل تزويد كييف لأنقرة بمحركات لأسلحتها ويتوقع المراقبون بزيادة الدعم الأمريكي لأوكرانيا دون المخاطرة بضمها إلى الناتو وهو ما تلعبه واشنطن من خلف الكواليس في توسيع دائرة الصراع وبالمقابل فإن روسيا تزحف شيئا فشيئا بقواتها استعدادا لحرب يبدو أنها حتمية في المستقبل القريب أو البعيد.

حجم التحدي
إن أقصى ما تستطيع فعله الدول الغربية هو معاقبة روسيا اقتصاديا وماليا مثل تعطيل منتدى الثمانية الكبار وبالرغم من أن القدرات الغربية على العقاب في المجالين المالي والاقتصادي يمكن أن يوقع أذى كبيرًا بروسيا لكن في المقابل ينعكس تأثير هذه العقوبات على أوروبا الشريك المالي والاقتصادي والاستثماري وشريك الطاقة مع روسيا ستكون كبيرة أيضا وبالفعل فقد فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا حزمة من العقوبات التي تستهدف الافراد الروس والدبلوماسيين فضلا عن قطاعي الطاقة والبنوك وحتى وإن ذهبت أوروبا لخيار العقوبات منع التحويلات المالية إلى روسيا فالواضح أن موسكو ترى حجم التحدي الذي تواجهها في أوكرانيا أكبر من أي عبء مالي واقتصادي محتمل.
أخيرًا ومهما كان موقف روسيا قويا فإنها لن تسمح في اللعب بالورقة الأوكرانية ومع ذلك فإن الازمة الأوكرانية لن تنتهي قبل أن تترك أثرًا بالغًا على روسيا وأوكرانيا وعلى جوارها الإقليمي والأوروبي، ولم تكن تقديرات موسكو بعيدة عن الصواب عندما قدرت منذ نهاية التسعينات أن مشكلتها الكبرى هي في الجوار المهدد لأمنها القومي من جهة أخرى تعيد الأزمة الأوكرانية الأهمية الجيوستراتيجي لتركيا التي ينصب اهتمامها في الوقت الراهن على حقوق ربع المليون تتاري من سكان القرم وهذا ما جعل الموقف التركي من الأزمة أقل حدة نسبيًا في التعامل مع موسكو، ولكن الصورة الأكبر للأزمة هي الأهم في النهاية سيما وأن لتركيا صلات مباشرة بكل مواقع التوتر في الجوار الروسي القريب سواء في أوكرانيا أو شمالي القوقاز، وبالرغم من أن الولايات المتحدة والكتلة الغربية لا تجد الآن وسيلة لانتزاع القرم من روسيا وليس من المستبعد أن تجد وسيلة أخرى لمعاقبة روسيا على محاولاتها إفساد عرس ذهاب أوكرانيا غربًا.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا