أخبار وتقارير

ما وراء تحذير الصين لأمريكا

ما وراء تحذير الصين لأمريكا

  بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق 1991م وتناثره إلى دول مستقلة أصبحت الولايات المتحدة هي القوة العظمى والقطب الوحيد في الهيمنة على العالم،

وبدأ راسمو السياسة الخارجية في البيت الأبيض يؤكدون بضرورة التفوق المطلق للولايات المتحدة في إمتداد نفوذها نحو المناطق التي كانت تحت نفوذ الإمبراطورية الروسية أو المتحالفة معها، فامتدت إلى دول البلطيق وأوكرانيا ودول وسط آسيا وإلى أوروبا، كان التوجس الأمريكي حول الصين التي تتطلع لأن تصبح في المستقبل القوة المنافسة لها، وكان لابد للولايات المتحدة أن تعزز نفوذها وهيمنتها على الوجود العسكري في كل مكان حتى لو كان وجوداً رمزياً بقوات قليلة، كما فعلت بريطانيا في القرن التاسع عشر حيث احتفظت بسيادتها على البحر الأبيض المتوسط طوال قرن ونصف القرن بالتواجد الرمزي لبعض القوات البحرية عند مداخل البحر الأبيض ومخارجه وحافظت على سيطرتها بمجرد التأكيد على وجودها العسكري.
وانطلاقاً من هذه الإستراتيجية لا يبدو على السياسة الخارجية الأمريكية إيجاد مناخات مستقرة في العالم دون إثارة الصراعات والحروب مع خصومها ومحاولة أن تكون صاحبة اليد الطولى في الهيمنة والتحكم بمسار الأحداث وإدارتها والإمساك بكافة خيوطها لتؤول نتيجتها لمصلحتها، لكن لماذا كل ذلك؟
في محاولة للإجابة بشك مباشر لأن أمريكا بلد تعتاش على اقتصاديات الدول وعلى الحروب والصراعات في العالم فالاقتصاد الأمريكي لا يمكن له أن ينتعش ويحقق تنافساً عالمياً إلا في ظل هذه الصراعات التي تستثمرها في ظل سيادة الدولار على السوق العالمية، بالرغم من النكسات والكوارث المالية التي تحدث من وقتٍ لآخر، وخصوصا بعد أن تبوأت الصين في السنوات الأخيرة المركز الاقتصادي الثاني عالميا بعد تراجع الاقتصاد الياباني إلى المركز الثالث، وأصبح اليوان على وشك منافسة الدولار، أي أن الصين أصبحت على الأبواب لتتبوأ المركز الأول اقتصادياً، لهذا تحاول أمريكا جاهدةً تدارك هذا الأمر الخطير، فالتفوق هنا بالمعني السياسي لدى راسمي السياسات الاقتصادية في أروقة البيت الأبيض هو استثمار كل الوسائل المتاحة وأهمها مصادر النفط وموارده وابتزاز القوى الاقتصادية الأخرى والسيطرة على البحار والممرات والمضائق البحرية الاستراتيجية، بحيث تصبح الأقطار العربية التي ارتبطت أمنياً وسياسياً بأجندات واتفاقيات أمنية استراتيجية وخاصة دول الخليج مع الولايات المتحدة لتمويل الخزانة الأمريكية بالأموال وتدفق الإمدادات النفطية لضمان استمرارها في الحكم، وهكذا تعمد السياسة الخارجية الأمريكية على مفهوم الإبقاء على تفوق القوة العسكرية الرادعة والترسانة النووية في ظل امتلاك عدة دول صاعدة أسلحة نووية مثل الصين وباكستان والهند وكوريا الشمالية.

القضايا المطروحة
الولايات المتحدة  تمارس سياستها مع الدول من منطلق التعامل معها في إطار مناطق متصلة، فبعد الحرب العالمية الثانية كشفت الوقائع أن القضايا المطروحة على الساحة الدولية هي قضايا آفاق وليست حدود، فوضعوا تعريفات جديدة لمناطق العمليات فمثلا قضية الصين أصبحت تمثل منطقة شرق آسيا وليست بلداً وحيداً هو الصين، والهند هي شبه القارة الهندية وليست الهند وحدها ومنطقة البحيرات هي منطقة وسط أفريقيا وليست كينيا، ومشكلة العراق هي مستقبل منطقة الخليج العربي وقضية الصراع العربي الإسرائيلي هي أمن شرق البحر المتوسط وليست السلطة الفلسطينية المغتصبة وإسرائيل التوسعية، إذاً التعامل هنا استراتيجي مع مناطق عمليات وليس مع دول محددة، وذلك لتحييد أية قوة اقليمية ممكن أن تظهر لديها قدرات عسكرية متطورة، كما حدث في الهند، وكانت باكستان نقيضاً لها كقوة نووية لتهديد أمنها القومي، وهكذا فإن واشنطن لا تسمح بظهور إنتاج الاسلحة الاستراتيجية، أو الأنشطة النووية، وبالذات في منطقة الشرق الأوسط التي تعتبرها مهددة لمصالحها وحلفائها كما هو حاصل اليوم مع إيران باستثناء إسرائيل.
كثيرون هم خصوم الولايات المتحدة وأبرزهم روسيا والصين ومعهما إيران المشمولة بالخطر في قواميس العوائل الحاكمة فإطلالة إيران على الجزء الشرقي من الخليج وسيطرتها على مضيق هرمز يراها الخليجيون كما تراها أمريكا والغرب إحدى التهديدات على إمدادات النفط.
لكن ما يشغل البيت الأبيض كثيرا الترويكا (الثلاثي) والقصد هنا الصين وروسيا وإيران المرتبطين بمصالح اقتصادية مشتركة، تبحث إدارة بايدن عن الحلقة الأضعف لتهميشها أولا في حلقة هذا الترابط كما هي في استراتيجية الحروب لكسر الحلقة الأضعف، أو على الأقل تأجيل تأثيرها الصاعد، وهناك توجه آخر أكثر مغامرة يسير بشكل متوازٍ في نفس الاتجاه لدق الإسفين في الحلقات الثلاث في آن واحد الأولى مع إيران لإجبارها عن التوقف عن برنامجها النووي بالعودة إلى اتفاق 2015م وايقاف إنتاج الصواريخ الباليستية.

الصراع الروسي الأوكراني
وفي ذات السياق فإنها تجد ضالتها مع روسيا في شبه جزيرة القرم ومنطقة الدنباس حاضرة في الصراع الروسي الأوكراني لإشغال روسيا على الأقل عن مواصلة مشاريعها السياسية في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، وتجلت أحداث الشهر الأخير رغبة الدول الغربية في إعاقة نمو روسيا، ومنع توطيد مواقعها في الساحة الدولية، وينفذ الغرب بإيعاز من الولايات المتحدة آليات العزل الإعلامية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية وتأجيج نار النزاعات الاقليمية، وقضية حقوق الإنسان وتكثيف الوجود العسكري وشحن الأجواء عسكريا ودبلوماسيا واستخدام أوكرانيا كأداة أساسية لتفاقم الأوضاع في شبه جزيرة القرم ومنطقة الدنباس.

أزمة «كورونا»
يبدو أن بايدن قد فقد لياقته الأدبية في وصف بوتين《بالقاتل》ذلك لأن موسكو نفذت إلى منطقة الخليج وتركيا وهو ما تعتبره واشنطن اختراقا لمجالاتها الحيوية التي تعتبرها حصرياً على نفوذها ونجحت موسكو في عقد اتفاقيات تعاون اقتصادية وتجارية واستثمارية مع بعض الدول كما يتزايد الاعتقاد أن الولايات المتحدة انشغلت على مدى عقدين بأعداء كثيرين، وتغافلت تقريباً عن صعود عدوها الأول الحقيقي الصين، وجاءت أزمة «كورونا» لتعمق هذا الاتجاه. يقول الخبراء إن الصين تتقدم بثبات نحو الموقع الأول في الاقتصاد العالمي، ويلاحظون أنها ألحقت ضرراً كبيراً بالنموذج الغربي وصورته، وأظهرت أنه يمكن إخراج مئات الملايين من دائرة الفقر والاندراج في ثورات تكنولوجية متلاحقة من دون الوقوع في فخ الديمقراطية الغربية، ومن دون التخلي عن القبضة الحديدية للحزب الواحد، وتؤكد الصين أن الديمقراطية ليست شرطاً للتقدم والابتكار، بينما تحاول الإدارة الأمريكية إلهاء العالم تحت مبرر الديمقراطية وحق تقرير المصير للتدخل في قضية تايوان ﻹيجاد مدخل في إثارة النزاع مع الصين.
وتأسيسا على ما سبق سنتناول قضية تايوان التي تحاول واشنطن استثمارها سياسيا  لمحاولة إعاقة الصين عن مشروعها  الحزام والطريق.

اختبار للإدارة الأمريكية
العالم يراقب باهتمام شديد التطورات الجيو ستراتيجية المحيطة بجزيرة تايوان التي تبرز على الساحة الدولية حاليًا باعتبارها أقوى اختبار للإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس جو بايدن في تعاملها مع الصين وهي محل توقعات مراقبين ومحللين  تخلص ترجيحاتهم أن تقود تلك التوترات إلى الحرب في بحر الصين الجنوبي المضطرب إذ أن فرضية السلام ضئيلة، وربما يستخدم كخيار أخير للمساومة في قبول الصين بإمريكا شريكا لها في قيادة العالم. فمنذ دخول بايدن إلى البيت الأبيض  وأمامه قد وضعت خارطة طريق للبنتاجون الذي يرى بضرورة تكثيف الوجود العسكري في المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة الصين التي تنظر لها واشنطن اليوم بأنها خصم رئيس لأمريكا، وكان البنتاجون قد أعلن مراراً نيته لنشر صواريخ بعيدة المدى في أراضي الفلبين وكوريا واليابان، وشدد وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن على ضرورة تكثيف الوجود العسكري الأمريكي في المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة الصين التي تسعى إلى تغيير النظام العالمي.

أولوية قصوى
الميزانية العسكرية الأمريكية لعام 2021م أعطيت لها أولوية قصوى لتعزيز القوات البحرية وإنشاء سفن السطح والغواصات الجديدة بما فيها الأساطيل الحربية، والدعم العسكري الذي تقدمه الولايات المتحدة لتايوان وأهمها الأسلحة الباليستية وهذه المخاطر المحدقة جعلت الصين تصعّد من إرسال الطائرات المقاتلة والقاذفات ذات القدرات النووية لاختراق الأجواء التايوانية، مما دفع مسؤولي تايبيه إلى نشر أنظمة صواريخ وإصدار تحذيرات صارمة لمغادرة الطائرات الصينية أجواء تايوان، وتزامنت هذه التطورات مع تعيين الرئيسة التايوانية تساي إنج وين للجنرال السابق تشيو كو تشن خريج كلية الحرب الأمريكية وزيرًا جديدًا للدفاع، مع توقعات بأن يشرف على تعزيز التعاون العسكري مع  البنتاجون بشكل يضمن زيادة القدرات الدفاعية لتايوان لمواجهة أي احتمال لـ"غزو" صيني محتمل للجزيرة.
وكانت بكين قد ردت بخطاب صارم على أي بوادر لتعزيز التعاون الاستراتيجي والعسكري بين واشنطن وتايبيه، حيث حذر وزير الخارجية الصيني وانغ يي في 7 مارس الماضي الولايات المتحدة من تجاوز الخطوط الحمراء واللعب بالنار بشأن قضية تايوان، ورداً على ذلك أكدت الناطقة الرسمية للبيت الأبيض جين بساكي على أن الولايات المتحدة ستقف مع الأصدقاء والحلفاء لتعزيز الرخاء والأمن والقيم المشتركة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في رسالة واضحة من جانب واشنطن على أهمية تايوان الاستراتيجية بالنسبة للوضع الأمني البحري في بحر الصين الجنوبي،  وزعم إدارة بايدن بناء تحالف من الديمقراطيات ذات التفكير المماثل لاحتواء طموحات الصين في تايوان.

توتر متزايد
التوتر المتزايد بين واشنطن وبكين بشأن تايوان يأتي في وقت تعتبر فيه الأخيرة الجزيرة التي انفصلت عن البر الرئيس أثناء الحرب الأهلية عام 1949م بدعم سياسي وعسكري أمريكي تعتبرها الصين مقاطعة منشقة يجب إعادة توحيدها مع الوطن الأم فتايوان أو الصين الوطنية الواقعة في المحيط الهادئ لا يفصلها عن الساحل الشرقي لجمهورية الصين الشعبية سوى مضيق فورموزا الذي يبلغ عرضه 150كم، وهي تقع على مسافة متساوية بين الفلبين وجزر أوكيناوا اليابانية.
وقد ظلت تايوان محل أطماع القوى الدولية لقرون خضعت لاحتلال واستعمار عدد من الدول، وأصبحت منذ العام 1887م مقاطعة صينية، إلا أن تايوان تحولت منذ العام  1945- 1895م تحت السيطرة اليابانية فأحكمت طوكيو قبضتها على الجزيرة التي تحولت إلى مستعمرة يابانية تقليدية جعلت منها اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية قاعدة عسكرية تنطلق منها لشن الهجمات على الصين الشعبية، وبالرغم أن اليابان انسحبت من تايوان عام 1945م إلا أنها لم تعترف بتبعية تايوان للصين الشعبية إلا بعد معاهدة فرانسيسكو 1951م. ومنذ العام 1949م أثناء الحرب الأهلية دأبت واشنطن لدعم تايوان عسكريا وأخذ الأسطول الأمريكي السابع يجوب مياه مضيق فورموزا بشكل دائم في الوقت الذي أعلنت فيه بكين عن قيام جمهورية الصين الشعبية في أكتوبر 1949م برئاسة ماو تسي تونغ، وأخذت تايبيه بردود الأفعال بإيعاز من الولايات المتحدة بإعلان استقلال الصين الوطنية(تايوان) برئاسة شيانغ كاي شيك.

منعطفات خطيرة
كانت الولايات المتحدة قد استطاعت أن تفرض تلك الجمهورية غير الشرعية طيلة عشرين سنة على المحافل الدولية باعتبارها الممثل الشرعي للصين الوطنية ومنذ مؤتمر جنيف 1954م أعلنت بكين تبعية تايوان لها، ورفضت واشنطن سحب أسطولها من مضيق فورموزا وأخذ الرئيس التايواني (شيك) يهدد بالهجوم ضد الصين الشعبية لقوة جيشه المدعوم أمريكيا وظل الصراع حول تايوان والجزر التابعة لها حتى الفترة  1958-1955م حيث استعادت الصين جزيرتي كيموي وماتسو، ثم أخذت أغلب الدول تعترف تدريجيا بجمهورية الصين الشعبية التي جاءت قطيعتها مع الاتحاد السوفييتي السابق حينذاك.
ومنذ قيام جمهورية الصين الشعبية سنة 1949م رفضت الولايات المتحدة الأمريكية الاعتراف بنظام الزعيم الصيني ماو تسي تونغ واتجهت بدلاً من ذلك إلى الاعتراف بنظام شيانغ كاي شيك الذي فرّ نحو جزيرة تايوان كممثل شرعي لتايوان. واستمر رفض الأمريكيين الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية لنحو 30 عاماً ضغطت خلالها الولايات المتحدة لمنح مقعد للصين الوطنية بالأمم المتحدة للحكومة المتمركزة بتايوان.
ومرت علاقة ماو تسي تونغ بالولايات المتحدة الأمريكية بمنعطفات خطيرة تجسّدت أبرزها خلال الحرب الكورية وحرب فيتنام ومن خلال التجارب النووية التي مهدت لدخول الصين الشعبية نادي القوى النووية. وقد جاء كل ذلك ليزيد من حدّة العداء بين كل من واشنطن وبكين طيلة فترة الخمسينات والستينات قبل أن تبدأ الأزمة بالانفراج تدريجياً خلال السبعينات أثناء فترة ريتشارد نيكسون الرئاسية الذي قيل إنه سعى لاستغلال بطاقة الصين الشعبية للضغط على موسكو، وزيادة عزلتها في خضم الحرب الباردة، وعرفت تلك الفترة ظهور ما يعرف بالبيانات الثلاثة التي ساهمت في بداية العلاقات الصينية الأمريكية. وشهد العام 1972م زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون إلى جمهورية الصين الشعبية في زيارة رسمية التقى خلالها أهم المسؤولين الصينيين ليشهد العالم بناءً على ذلك ميلاد ميثاق شنغهاي الذي وعدت من خلاله كل من الصين والولايات المتحدة بتخفيف حدة التوتر بينهما، وبدأت مناخات سياسية جديدة لتحسين العلاقات بين الدولتين  وأبدى الطرفان حينها رغبتهما الشديدة في زيادة نسبة العلاقات الاقتصادية والثقافية بينهما، وتم تسهيل دخول رجال الأعمال الأمريكيين  للسوق الصينية وتطلعت جمهورية الصين الشعبية للحصول على تكنولوجيا جديدة من المنتجات  الأمريكية.
في ديسمبر 1978م لم يتردد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، في إصدار بيان أعلن من خلاله أن بلاده ستعترف بحلول العام الجديد بجمهورية الصين الشعبية بشكل رسمي وستقطع من جهة أخرى علاقاتها بتايوان نزولاً عند رغبة بكين وقد أثارت تصريحات جيمي كارتر حينها غضب كثير من أعضاء الكونجرس الذين رفضوا فكرة الخضوع لرغبات جمهورية الصين الشعبية وقطع العلاقات مع تايوان وإنهاء العمل باتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين ليمرر بذلك المشرّعون الأمريكيون قانون العلاقات مع تايوان الذي منح هذه الجزيرة مرتبة شبيهة ببقية الدول الأخرى وسمح بمواصلة بيع الأسلحة للحكومة التايوانية. وبدلاً من السفارة الأمريكية بتايوان أنشأ الأمريكيون ما عرف بالمعهد الأمريكي بتايوان لمواصلة خدمة مصالحهم بالمنطقة.

الصين الواحدة
انطلاقا من البيان المشترك في 1 يناير 1979م أعلنت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية بشكل رسمي عن إرساء علاقات دبلوماسية بين البلدين واضعتان بذلك حدا لثلاثين سنة من القطيعة، وبذلك، اعترف الأمريكيون بحكومة بكين كممثل رسمي للصينيين وفي العام 1982م أكدت الصين الشعبية والولايات المتحدة الأمريكية من خلال بيان آخر على رغبتهما في زيادة التعاون في مجال التكنولوجيا والتجارة والثقافة والبحث العلمي، كما أكدت على ما اتفق عليه طيلة السنوات السابقة حول مسألة تايوان دون التوصل لاتفاق حول مسألة تزويد الولايات المتحدة الأمريكية للأخيرة بالأسلحة واعترفت دول العالم بالصين الشعبية، وفي غمرة تلك الانتصارات كررت بكين الدعوة لتايوان للعودة للوطن الأم.
ومنذ فترة الرئيس السابق جورج بوش الابن بدأت واشنطن بحملاتها الهجومية ضد الصين وترسيخ علاقاتها مع تايبيه كأقوى حليف لتايوان ومزوّدها الأول بالأسلحة لتمكينها من الدفاع عن نفسها وفقًا لقانون أصدره الكونجرس الأمريكي بهذا الخصوص وفي هذا السياق أكد الرئيس الصيني شي جين بينج مرارًا، في السنوات الأخيرة على أن إعادة دمج تايوان تحت حكم الصين أمر لا مفر منه ويجب تحقيقه بكل الوسائل الضرورية بما في ذلك استخدام القوة العسكرية، وخلال خطابه في أوائل مارس الماضي أمام المؤتمر الوطني لنواب الشعب الصيني كرر رئيس مجلس الدولة الصيني
التأكيد على مبدأ "الصين الواحدة" مشددًا على أن بكين ستظل يقظة للغاية وستردع بحزم أي نشاط انفصالي يسعى إلى استقلال تايوان، وقال نائب وزير الخارجية الصيني لو يوتشنغ : "إن توحيد الصين عملية تاريخية لا يمكن وقفها، ولا يمكن لأحد، ولا لأى قوة أن توقفها، ولن نسمح أبدًا لتايوان بالحصول على الاستقلال.. فمبدأ "الصين الواحدة" هو خط أحمر لن يتم السماح بتجاوزه.
من جهتها أكدت إدارة بايدن على أن التزامها تجاه استقلال تايوان ثابت كالصخر وأنها لن تتخلى عن تايوان في أي محاولة لإعادة تحسين العلاقات مع الصين. وذهب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين إلى حد وصف تايوان بأنها دولة وتعهد بإيجاد مساحة أكبر للاتصالات مع تايبيه، وفي السياق نفسه طلبت الإدارة الأمريكية الدعم لاستقلال تايوان من الحلفاء الإقليميين وخاصة اليابان التي زارها مؤخراً وزير الدفاع الأمريكي وكانت اليابان قد حافظت على علاقاتها القوية مع مستعمرتها السابقة على مدار عقود، وهو الأمر الذي أسفر عن التأكيد في اجتماع "اثنين زائد اثنين" لوزيرى الخارجية والدفاع من الولايات المتحدة واليابان في 16 مارس الماضي على أهمية السلام والاستقرار في مضيق تايوان في إشارة واضحة على عزم الدولتين التعاون معًا لدعم الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي والاستقلال النسبي منذ 1949م.

مناورات غير مسبوقة
تبدو إدارة بايدن عازمة على تقديم مساعدات عسكرية ودبلوماسية ملموسة لتايبيه استكمالًا لما قامت به إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب التي كانت قد سمحت بزيادة مبيعات الأسلحة وتخفيف القيود على التبادلات الرسمية في المجالين العسكري والدبلوماسي مما أثار استياء شديدًا من جانب بكين، وكانت  المؤشرات الدالة على ذلك القرار غير المسبوق الذي اتخذه فريق بايدن بدعوة سفير تايوان في واشنطن رسميًا إلى حفل التنصيب الرئاسي في يناير الماضي الأمر الذي اعتبره الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم في تايبيه على أنه "اختراق جديد" منذ أن قررت واشنطن عام 1979م الاعتراف ببكين ومن ناحية أخرى وسّعت إدارة بايدن أيضًا من انتشار قواتها العسكرية البحرية في بحر الصين الجنوبي بما في ذلك مضيق تايوان في إشارة واضحة على التزام واشنطن بتزويد تايوان بوسائل الدفاع عن نفسها، وحرية الملاحة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، كما بذلت واشنطن في الآونة الأخيرة مساعي ملموسة لإقناع حلفائها في فرنسا وألمانيا وبريطانيا واستراليا واليابان والهند بتشكيل تحالف عسكري لـ"مواجهة وردع" النفوذ البحري الصيني المتزايد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وربما يكون هذا التحالف العسكري الناشئ في هذه المنطقة هو أحد الدوافع المهمة لقيام بكين في أواخر فبراير الماضي بإجراء مناورات عسكرية غير مسبوقة شاركت فيها عشرات الطائرات المقاتلة وقاذفات القنابل بالقرب من جزر "براتاس" التي تسيطر عليها تايوان في بحر الصين الجنوبي، وجاءت هذه المناورات بعد التدريبات البحرية الصينية التاريخية في العام الماضي التي أطلق عليها "مناورات البحار الأربعة" اشتملت على نشر حاملات الطائرات الصينية في مضيق تايوان.
تفاقم التوتر الأمريكي الصيني بشأن تايوان من المرجح أن يستمر في المدى المنظور في ضوء عدة مؤشرات هامة أبرزها ما يلي:
أولاً: وضعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ توليها السلطة مواجهة التمدد الصيني الذي يمثل تحديا كبيرا للولايات المتحدة وهي على رأس أولوياتها في سياستها الخارجية، وقد جاء تصعيد الكونجرس وأعضاء  مجلس الشيوخ الأمريكي في 8 أبريل الجاري لتقديم مشروع قانون أطلق عليه قانون التنافس الاستراتيجي لعام 2021م يهدف إلى السماح للولايات المتحدة بمواجهة التحديات التي تشكلها الصين.
ثانياً:  تمرير الكونجرس الأمريكي مؤخرًا مبادرة الردع في المحيط الهادئ، والتي تم تمويلها بمبلغ 2,2 مليار دولار لعام 2021م لمواجهة قوة الصين العسكرية المتنامية والحفاظ على الهيمنة العسكرية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ثالثا:  يرجح البنتاجون أن تٌسرِّع الصين في غزو تايوان في غضون ست سنوات أي بحلول عام 2027م لتحقيق هدفها المعلن بالحلول محل الولايات المتحدة كأكبر قوة عسكرية في العالم.
 رابعا : تسعى الصين إلى تعزيز قدراتها العسكرية وباتت أكثر حزما مع تايوان في نزاعات السيادة على بحر الصين الجنوبي، وأصبحت أكثر صدامية مع واشنطن، وهو ما انعكس بوضوح من قبل مسؤولين صينيين في توجيه انتقادات حادة وعلنية غير عادية إلى وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكيين في محادثات الأسكا في 19 مارس الماضي.
خامسا : توتر العلاقات بين بكين وتايبيه منذ وصول الرئيسة التايوانية إلى السلطة في 2020م وميولها للاستقلال  إذ قطعت الصين جميع الاتصالات الرسمية مع تايوان بعد شهر واحد من تولي تساي منصبها، وتخاطبها بكين بضرورة أن تقر أولًا بأن تايوان جزء من الصين الشعبية وهو ما ترفضه الرئيسة الحالية لتايوان.
وعلى أية حال ينظر المراقبون والمحللون إلى تايوان على أنها قد تكون السبب الأهم لوقوع حرب أمريكية - صينية كارثية في المستقبل، ولعل تحذير مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق "هربرت ماكما ستر"  أن التوترات المتصاعدة عبر مضيق تايوان تمثل أهم نقطة اشتعال في العلاقات بين واشنطن وبكين، مشيرًا إلى أن تايوان سوف تكون الجائزة الكبرى القادمة للصين..
 ومما سيزيد الأمور تعقيدًا إصرار مسؤولي إدارة بايدن، بل والحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونجرس الأمريكي على تعميق العلاقات مع تايوان في الفترة المقبلة الأمر الذي سوف يثير حفيظة  بكين ضد التدخل الأمريكي في شؤون بلدها الذي تعتبره خطا أحمر.
ووسط هذا التوتر كانت هناك ثمة اعتقادات أن تغييرات قد تحدث فى العلاقة بين البلدين مع قدوم جو بايدن، بيد أن تلك التغييرات لم تكن ملموسة حتى اللحظة الراهنة، فالمؤشرات تقول إن العلاقة تتحدد بالمواقف، وليس اتجاهًا عامًا للتصعيد المتبادل.
صعود الصين يمثل تحديًا أكثر تعقيدًا يواجه أي قادم على عتبة البيت الأبيض، فهى الخصم الأكثر شراسة والند القوى الذي يواجه الولايات المتحدة، ما يتعين على أمريكا أن تجد سبلًا للتعايش معها، بدلًا من التصعيد المستمر الذى سينعكس على خسارة الطرفين بلا محالة.
وفى المقابل إذا ما تمكن النظام  الصيني بقيادة الرئيس شى جين بينج تحقيق حلمه، ستزيح بكين واشنطن من مواقع القيادة التى اعتادت عليها  خلال القرن الأمريكى وإذا لم يتم إقناع الصين بأن تكبح جماح نفسها، وأن تتعاون حقًا مع الولايات المتحدة سيكون من قبيل المستحيل تحاشى اندلاع حرب كارثية، أو الحفاظ على مناخ تستطيع فيه الدولتان فرض خيارات السلام، ومن أجل مواجهة هذا التحدي يتعين على الرئيس الأمريكى جو بايدن وفريقه صياغة استراتيجية جديدة للأمن والاستقرار .
 الصين ماضية في الصعود وستكون أكبر لاعب فى العالم، كما وصفها لي كوان يو رئيس الوزراء ومؤسس سنغافورة الراحل نظرا لأن عدد سكان الصين يصل إلى أربعة أمثال سكان الولايات المتحدة فإنه إذا كان الصينيون يتمتعون بنصف الطاقة الإنتاجية للأمريكيين، فإن إجمالى الناتج المحلى للصين سوف يكون ضعف إجمالى الناتج المحلى فى الولايات المتحدة، ومن شأن هذا أن يسمح للصين بأن تستثمر فى مجال الدفاع ضعف ما تنفقه أمريكا، ومن جهة أخرى ستكون طريقة التعامل الأمريكي مع قضية تايوان كاشفة لمدى زيف إدارة بايدن المتمركزة حول نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان والليبرالية السياسية التي تخادع بها العالم لاجنداتها السياسية، وفي اعتقادي أي تحرك عسكري صيني ضد تايوان سيضع إدارة بايدن أمام خيارين لا ثالث لهما: الخيار الأول: هو التخلي عن التدخل في القضايا الداخلية في شؤون الصين واعتبار تايوان جزءا من جمهور الصين الشعبية، أما الخيار الثاني: فهو المخاطرة بما يمكن أن تصبح حربًا شاملة حول قضية تايوان التي لا يمكن للصين التنازل عنها أبدا.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا