كتابات | آراء

وجهُ الخطإ في تكبُّد عناء تركِ الأبناءِ أغنياء

وجهُ الخطإ في تكبُّد عناء تركِ الأبناءِ أغنياء

ما أكثر ما ينشغل بعض الآباء في مجتمعنا عن مهمَّة غرس القيم الإيمانية المُثلى في نفوس الأبناء بالالتهاء بل الانهماك إلى أبعد مدى بجمع ما يستطيعون جمعه من حُطام الدنيا الذي لا يشك عاقلٌ من العقلاء في حقيقة ما ينتظره من حتمية الانتهاء إلى فناء.

وفي انتحاء ذلك المنحى تناقض واضح مع مضمون قول المولى تبارك وتعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) النساء الآية: (9).
ولعل أهم الدوافع التي تحمِلُ ذلك الصنف من الآباء على الإصرار على مواصلة هذا المسعى الأكثر ركونًا إلى الحياة الدنيا دون إبطاء هو اعتقادُهم الخاطئ بأنَّ المال الذي سيورثونه لأبنائهم من بعدهم والذي أنفقوا من أعمارهم في جمعه عقودًا زمنية عديدة سيوفر لأولئك الأبناء المفتقر معظمهم إلى القلوب الحية والعقول الرشيدة حياة معيشية ومجتمعية سعيدة.
ما الدافع الثاني لتشبُّث أولئك الآباء -سامحهم الله- بالسير في هذا الاتجاه فيتمثل في انخداعهم بكثير من الشعارات المادية التي صِيْغتْ باحترافية من قبل أعداء الله، وفي مقدمة تلك الشعارات الشعار الذي يكثر تدواله إلى درجة لافتة للانتباه: (المال عصب الحياة).
وما أكثر ما يفاجأ هؤلاء الآباء الذين أمَّنوا لأبنائهم الجوانب الحياتية الماديَّة بملك الموت يقبض أرواحهم قبل أن يُؤمِّنوا لأولئك الأبناء المفرطين في الثراء الحدَّ الأدنى من الخارطة الإرشادية التي من شأنها ضبط إيقاع تصريفهم للمال في المصارف الحلال وبما يجعلهم عامل إصلاح في مجتمعاتهم، بدلاً من إنفاقهم ما يرثونه من تلك الأموال -وقد ورثوا عن آبائهم صفة اللهث وراء جمع المال- في مصارف السوء التي تُسهِم في توسيع مسالك الزيغ والضلال من ناحية، وفي تحجيم وتقزيم قيم الخير والفضيلة أمام قيم التهتك والانحلال من ناحية ثانية، فيصبحوا -بما توافر لهم من ثروات مالية طائلة- معاول هدم في أنسجة المجتمعات وقواها العاملة.
وفي كل الأحوال لستُ ضِدَّ حرص الآباء على ترك الأبناء من بعدهم أغنياء على سبيل الإطلاق، فمن المنطقي تركُهم -في حدود المشروع والمتاح- بما أمكن من حالةِ الرخاء بدلًا من تركهم في حالة لا تُطاق من الفاقة والإملاق، بشرط أن يغرس الآباء في وعي الأبناء الذين ستؤول إليهم الأموال بلا مشاقّ ما يُصلح دنياهم وأخراهم من مكارم الأخلاق.
وإنني إذ أجدد توكيدي أنني مع (ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا)، لأؤكد -في حال اقتصار إمكانات بعض الآباء على تأمين أبنائهم بأمرٍ واحد فقط من الأمرين- على تقديم جانب الأخلاق المنبثق من صميم الدين على جانب المادة (معبودة اللادينيين)، إيمانًا منِّي -شأني شأن أخواني معاشر المسلمين- بـ(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذاريات الآية رقم: (58).
ولعل في طيَّات هذه القصة التأريخية صورةً حيَّةً تُسهم إسهامات قويًّة في حسم ما قد يُثار من جدل حول هذه القضية:(فقد رُوِي أنَّ «مقاتلَ بنَ سليمان» -رحمة الله عليه- دخل على «أبي جعفر المنصور» -رحمه الله- بعد أن آلت مقاليد الحكم خلفًا لأخيه. فقال له «المنصور» -مسترشدًا-: عِظني يا مقاتل!فقال «مقاتل»: أعظُك بما رأيتُ؟ أم بما سمعتُ؟ قال: بل بما رأيتَ. قال: يا أمير المؤمنين، لقد تُوفيَ عمر بن عبد العزيز -رحمةُ الله عليه- عن أحد عشر ولدًا، وترك من المال ثمانية عشر دينارًا، كُفّنَ منها بخمسة دنانير، واشتُريَ لهُ قبرٌ بأربعة دنانير، وَوزّعت التسعة الدنانير الباقية على أبنائه الأحد عشر. وتُوفيَ هشامُ بن عبد الملك -أيضًا- عن أحد عشر ولدًا، وترك تركةً ضخمة كان نصيبُ كلّ ولدٍ منها ألف ألف دينار (أي مليون دينار).
ووالله -يا أمير المؤمنين- لقد رأيت بعَيْنَيَ هاتين في يومٍ واحدٍ أحدَ أبناء عمر بن عبد العزيز يتصدَّق بمائة فرس للجهاد في سبيل الله، وأحد أبناء هشام بن عبدالملك يتسوَّل في الأسواق. وقد سُئل عمر بن عبدالعزيز من قِبَلِ بعض خاصَّته وهو يُعالج السكرات على فراش موته: ماذا تركت لأبنائك يا أمير المؤمنين؟ قال: تركت لهم تقوى الله، فإن كانوا صالحين، فالله تعالى يتولى الصالحين، وإن كانوا غير ذلك، فلن أترك لهم أموالًا تُعينهم على معصية الله تعالى).

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا