كتابات | آراء

بوح اليراع: قطرات من بحر الذكريات (3)

بوح اليراع: قطرات من بحر الذكريات (3)

معظم النظريات التي تسير شؤون الحياة مجرد اجتهادات فردية تتناسب وزمن تأسيسها، وغالبًا ما يعدل مؤسسيها -في زمن لاحق- إلى عكسها، لذلك يعرِّض بعضَ البشر ما يتميزون به بعد نظر للخطر.


الملازم (محمد المحويتي) سبق عصره بنضوج فكره
يقال-في علم النفس العسكري- إنَّ «ثلاثة أرباع الجاهزية القتالية تكمن في الحفاظ على الروح المعنوية»، وهذا ما تفتقر إليه البرامج التأهيلية «التدريبية منها والتعليمية» المتبناة من قبل المؤسسات الدفاعية والأمنية في كافة أقطارنا العربية والإسلامية، وذلك ما جعل جيوشنا العربية الإسلامية الحديثة والمعاصرة -بالرغم من إنفاق الكثير والكثير تحت مبرر التحديث والتطوير- في تنافس دائم على احتلال ذيول القوائم وعلى تجرع أقسى الهزائم، وقد نوَّهَ إلى ذلك الاختلال المنهجي الأخطر منذ وقت مبكر -بحسب ما علق في ذاكرتي- الملازم «محمد المحويتي».

عرف بشكل معتاد شعلة من نشاط
بالعودة -للمرة الثانية- إلى زمن التحاقي في سنٍّ مبكرة بالدفعة العاشرة في مدرسة المشاة أواخر عام ١٩٨٢ أتذكر أن عدد الضباط وضباط الصف المعلمين لم يكن يتجاوز عدد أصابع اليدين، كما أتذكر أنَّ هيئة تدريب المدرسة كان تخلو خلوًّا نسبيًّا من الملازمين، إذ اقتصر وجودهم على الملازم «محمد المحويتي» الذي لم يكن سنُّه قد بلغ-آنذاك- العشرين، والذي أسندت إليه -نظرًا لحداثة سنِّه وحداثة عهده بالتخرج من الكلية الحربية- مهمة افتتاح البرنامج التدريبي والتعليمي اليومي بطابور الرياضة التي كانت تغلب عليها تسمية «التربية»، فكان بين زملائه الضباط شعلة من نشاط، وكان لما يبذله من مجهود يوميٍّ محدود -على أبدان ونفسيات الجنود- مرود محمود.
وبقدر ما كان ذلك الإفراط في الحيوية والنشاط يتناسب مع الطلاب الذين كانوا ما يزالون في سنِّ الشباب، كان يقابل من زملائنا كبار السنِّ بشيء من التضجُّر والتذمر، وغالبًا ما كانت ألسنتهم -في مسعى منهم إلى طعنِهِ في ظهره والانتقاص من قدره- تلوك أكذوبة رسوبه «سقوطه» بمادة «السلوك» زاعمين- في ذات الحين- حتمية تأخر حصوله على رتبة الملازم إلى بعد تخرج الدفعة اللاحقة لدفعته في عام قادم، وكانت هذه الأكذوبة تجد لها ما لا تستحق من الأصداء لدى الطلاب البلداء.

سبقه في انتقاد أخطاء مطبقة
من الجمل المتداولة بشكل مستدام في الأوساط العسكرية العربية بشكل عام جملة «العسكرية طاعةٌ عمياء»، وفيها شرعنة للفرعنة وللاستبداد بالمرؤوسين من العسكريين البؤساء من قبل القادة أو الرؤساء.
وعلى الرغم من أنَّ هذه الجملة ما تزال إلى يوم الناس هذا سارية التردد وقابلةً للتجدد، كان للملازم محمد المحويتي -قبل أربعة عقود- من هذه الجملة الباعثة على التبلد موقفٌ توعويٌّ متفرد، فقد كان يرى أن العسكرية -باعتبارها الوارثة الحقيقية للفروسية- «طاعةٌ واعية»، على اعتبار أن نجاح العسكريين في ما يسند إليهم من مهام عسكريّة مرتبطٌ ارتباطاتٍ جذرية بإيمانهم بعدالة ما يدافعون عنه من قضية، معتبرًا أولئك القادة أو الضباط أو الأفراد الذين ينظرون إلى هذه الرسالة الوطنية المقدسة بالمقلوب عميَ البصائر والقلوب.
لكننا لم نكن نفطن -بسبب حداثة سننا- إلى ما كان ينطوي عليه ذلك الطرح المهني العقلاني من معانٍ ودلالاتٍ قيمية قوية تتناغم مع القيم الإنسانية السوية.
وعلى افتراض صحة افتراء أولئك الزملاء على الملازم «المحويتي» بأن إدارة الكلية الحربية غير راضيةٍ عن سلوكيات التي لم تكن -وفق معاييرها البالية- سلوكيات غير مثالية، وأنها قد اتخذت في حقهِ إجراءاتٍ عقابيَّةً قاسيةً تسبب بتأخر نيله رتبة الملازم  أو بالأحرى تعزيزها المالي فلم يعتمد له إلَّا ضمن التعزيزات المالية لخريجي دفعة عسكرية تالية، فإنَّ لجوء إدارة تلك المنشأة العسكرية الاعتبارية إلى اتخاذ ذلك الإجراء العقابي المخجل جاء ردًّا انفعاليًّا وغير واعٍ على مواقف الرجل المعبرة عن نضوج فكره إلى مستوى جعله سباقًا لعصره.

ملاحظة:
قبل الشروع في كتابة هذه السطور بذلت جهودًا مضنية بغية العثور على أية معلومة عن العزيز «محمد المحويتي» من شأنها إثراء المقال وإجلاء ما غمض من شخصيته الفذة لمن لم يعاصره من الأجيال، لكنني لم أعثر لذلك الرجل الأغر على أثَر، ولهذا السبب اقتصرت -مضطرًا- على إيراد الاسم واللقب.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا