كتابات | آراء

بوح اليراع:طيف العميد الجُنَيْد بين استشهادين

بوح اليراع:طيف العميد الجُنَيْد بين استشهادين

لم يتملكني -على امتداد مشواري الصحفي- شعور الحيرة والعجز عن الكتابة في رحيل عزيز أو فراق قريب كما تملكني شعور العجز عن التعبير عن حزني الكبير

منذ لحظة انصدامي بخبر استشهاد الأخ الفاضل العميد الطيار ركن عبدالله قاسم الجُنَيْد ومعه جميع أفراد أسرته بالإضافة إلى عدد من ذوي قرابته تحت سقف بيته الذي تعرض مساء 17يناير الجاري لغارتين صاروخيتين غادرتين نفذتهما مقاتلتان تابعتان لنظامي "آل سعود وآل نهيان" اللذين أثبتا -وهما يديران حربهما اللاأخلاقية على الشعب اليمني بعبثية بهيمية- تجردهما من كل القيم الآدمية.. فبالرغم ممَّا رافق جرم استهداف الشهيد الجُنَيْد في ذلك المساء وإزهاق أرواح أهله وذويه بمن فيهم الأطفال والنساء من تبرير وادعاءٍ كاذب بأن غارتيهما حققتا هدفهما بمباغتة تجمع قيادي عسكري محارب، فلا أكاد أشك باقتناعهم بأن تبريرهم محض إفك، إذ لم يعد يخفى على غرف عملياتهم -على مدى سبع سنوات من الحرب الضارية ذات الأبعاد الاستخبارية- اقتران اسم العميد الجُنَيْد مدير كلية الطيران بالسلمية.
لذلك أجزم أن استهدافهما لهذه الشخصية القيادية المثالية لم تنطلق من منطلقات تكتيكية انتقامية، بقدر ما سعتا لاستغلال رتبته العسكرية ومنصبه الإداري واشتهاره بالسلوكيات الالتزامية النظامية في كسب معركة إعلامية.. ولأن الشيء بالشيء يُذكر ما زلت -شأني شأن الكثيرين غيري- أتذكر أن روح الشهيد عبدالله قاسم الطاهرة المعروف بالتواضع ودماثة الأخلاق ولطف المعشر قد تصدَّر بنك أهداف تحالف الشر منذ وقت مبكر من عام 2015 الذي تسبب -باستهدافه الكثيف والمتكرر للبشر والشجر والحجر- بإخلاء معظم المرافق الحكومية وتعطيل عمل المنشآت التعليمية لا سيما العسكرية اللاتي تتصدرها إلى الآن الأكاديمية العسكرية والكلية الحربية وكلية الطيران.
وفي غمرة مخاوف ذلك الجو الأمني المتكهرب الذي كان يتحرك في ظله أي رجل عسكري وهو يدري أن الموت يحيطه من جميع الجوانب، ظل الشهيد الجُنَيْد -في ضوء حديدية انضباطه والتزامه- يتردد للاطلاع على أوضاع الكلية جاعلا ذلك التردد المتجدد أولوية في سلَّمِ مهامه.. وقد صادف قبل ظهر يوم السبت الـ23 مايو عام 2015 مجيء الشهيد بحراسة محدودة إلى الكلية بزيارته المعهودة، فجعل من فوره يتفقد سير عمل المناوبين ويوجههم بما ينبغي عليهم من واجب المحافظة على موجودات الكلية باعتبارها أمانةً لديهم، ولم يكد ينتهي من إتمام جولته الإشرافية التفقدية داخل مرافق الكلية حتى أدركه وقت صلاة، فما كان منه وممن معه سوى الاستجابة للنداء والتوجه إلى بيت الله لأداء الصلاة الظهر، وبعد ترك فرصة معقولة للوضوء من لم يكن متوضئًا وبعد الانتهاء من تحية المسجد وبعد ما يفصل بين الأذان والإقامة من وقت محدد تقدم الشهيد يؤم نائبه وأركاناته أفراد حراسته المحدودي العدد، إذ لم يتجاوز المأمومون خلفه الصف الواحد المكون من أحد عشر مصليًّا كأقصى حد، لأن الأوضاع الأمنية كانت تفرض على كل فرد من أفراد أمن الكلية البالغ عددهم ثلاثين فردا أن يتخذ من نقطة حراسته مسجدا.. وبينما كان أولئك النفر المستغرقون في صلاتهم يسجدون سجودهم الأول من الركعة الثالثة كان تحالف الشر يستهدف كليتهم ويستهدفهم -في إطار استهدافه المخطط لمديرهم- بكارثة ما بعدها كارثة، فقد استهدفت الكلية في أقصر مدة بأربع غارات جوية دفعةً واحدة، صوبت الأولى منها على مبنى الجامع مستهدفًةً المصلين -وعلى رأسهم الشهيد عبدالله الجُنَيْد المستهدف لذاته- بموت أكيد، بينما صوبت الثانية على مبنى سكن الطلبة، فيما صوبت ثالثتها على مبنى المطبخ متزامنةً تزامنًا متعمدا مع لحظات صرف وجبة الغداء، أما رابعة تلك الغارات فكانت من نصيب صالة المحاضرات.. ولأن قوة الكلية "ضباطاً وطلابًا وأفرادًا" كانت -باستثناء المناوبين ممنوحة إجازة، فقد ذهبت الـ3 الغارات هباء، بينما أصابت هدفها الغارة الأولى التي استهدفت المصلين، وقد كانت كفيلة بإيرادهم اللحود، لولا أن تداركهم بلطفه رب الوجود بحدوثها وهم في وضعية السجود، فضلا عن نزولها -بقدرة العزيز القادر- على النصف المتأخر من مبنى الجامع، متسببة بنزول النصف المتقدم من السقف دون تكسر، فكان لهم بمثابة الساتر الذي وقاهم جل مخاطر الصاروخ المتفجر، فبالرغم من أن هول الحادث قد أفقدهم الإحساس بالزمان والمكان لثوانٍ معدودة، فقد تبين لهم أن إصاباتهم -جميعًا- محدودة لا تُقارن بحجم الدمار الذي نجم عن التفجير، ومع أن أبلغها كانت من نصيب المدير، فقد تجاهل آلامه موليًا إصابات مرؤوسيه كل اهتمامه، وسرعان ما وجههم -بعد التأكد من خلو الأنقاض واكتمال العدد- بسرعة التوجه إلى أقرب مستشفى لمجارحة الإصابات واستخراج الشظايا، وبعد اطمئنانه على سلامة الجميع اتجه إلى أقرب منزل من منازل أركاناته الذي كان بصحبته لالتقاط أنفاسه ونفض ما علق من غبار وآثار الحادثة بملابسه حتى يعود لأهله بهيئة مقبولة.
ولعل الله تعالى قد علم بحسن نيته فأرجأ منيته (من 23/5/2015 إلى 17/1/2022)، ليمنحه -بين استشهادين- عددًا من السنين يخلد فيها -بالإضافة إلى ملازمة صالح أعماله- إلى أهله، استعدادًا لارتحاله وإياهم على حدٍّ سواء مثل طيف شديد الصفاء إلى ما أعده الله -جل وعلا- للشهداء من الدرجات العُلى في الفردوس الأعلى.. فسلام الله عليه حين وُلدَ وحين استُشهِدَ وحين يُبعثُ حيًّا.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا