كتابات | آراء

ثورة الرسول الأعظم والتحولات البنيوية

ثورة الرسول الأعظم والتحولات البنيوية

يبدو لي من خلال مشاهد الميادين والساحات التي تحتفي بالمولد أنه مع اكتمال دورة الزمن تكون اليمن قد تجاوزت مرحلة لتبدأ مرحلة جديدة،

هذه المرحلة ستكون ذات تغاير وفصل، تغاير عن الماضي القريب الذي تاهت فيه اليمن، وفصل بين زمنين، زمن أمعن في الانحراف التاريخي واستغرق نفسه فيه، وزمن سوف يعمل على تصحيح الانحراف الذي حدث في سقيفة بني ساعدة، ليعيد ترتيب النسق الحضاري والثقافي والتاريخي الى المجرى الطبيعي الذي دلت إشاراته الأولى ورموزه على تعاضده وتكامله ومن ثم واحديته.
فالمشروع الاسلامي بكل قيمه ومبادئه الحضارية والإنسانية والحقوقية لم تكن قريش حاملاً حقيقياً له بل كانت بيئة قروية عشائرية تقوم على قيم العصبية ولذلك شكلت بيئة طاردة لهذا المشروع وكان الانتقال من القروية الى المدنية يحمل دلالات كبيرة في الفكر الاجتماعي لم ينتبه إليه أحد، كما أن تمايز التنزيل بين المكي/القروي والمدني/ اليثربي .. يحمل دلالات ثقافية وعقدية لم تُقرأ في سياقها الحقيقي، ومن هنا يمكن أن يُقال إن المشروع الاسلامي الذي جاء لإنقاذ البشرية من دروب الضلال الى أنوار الهدى وحمله الرسول الأكرم محمد «صلى الله عليه وآله وسلم» كان مشروعاً مدنياً لا يمكنه التناغم إلا مع القيم الحضارية والمدنية التي كانت تمتد في حمير ومن حمير في الأوس والخزرج «الأنصار».
فالتلازم بين الاسلام كمشروع يحمل الخيرية للبشرية، وبين حمير هو تلازم عضوي حدث في زمن بزوع الاسلام فأبهر العالم المحيط يومذاك، وحين حدث الانحراف من خلال التأسيس له في سقيفة بني ساعدة ومحاولة قريش استعادة دورها الاقتصادي، ومن ثم استعادة المجد والسيادة كما بدا مكتملاً – أعني مشروع قريش - في زمن الخليفة عثمان بن عفان ليبلغ أوج كماله بخروج الإمام علي بن ابي طالب من المعادلة الوجودية السياسية لتبدأ مرحلة التضليل وصياغة النصوص وتعزيز عوامل الصراع الوجودي وفق منظومة نصية قيمية تماهت قريش مع اليهود فيها لتبدع واقعاً متناغما مع مشروعها  وهو ما اصطلح عليه بالإسرائيليات فيما بعد، ثم كانت الفرق والصراعات كما يتحدث التاريخ، في ظل غياب حقيقي للحامل الحقيقي للمشروع الاسلامي.
وأمام كل تموجات اللحظة تبدو الحاجة الى عودة الحلقة المفقودة الى مكانها الطبيعي في المسار من ضرورات اللحظة التاريخية الفاصلة، وتلك الحلقة تحتاج وعياً بها، لا قفزاً على حقيقتها وفق طاقات انفعالية مدمرة فخط قريش يعود الى نفس مساره الثقافي والاجتماعي والسياسي التاريخي فإذا كان هذا الخط في زمن التكوين -- وهو القرن الأول الهجري - قد تناغم مع اليهود في حركة مقاومتهم ومقارعتهم للإسلام ونتج عنه ما اصطلح الفقهاء على تسميته بالإسرائيليات - وهي منظومة احاديث مكذوبة أبدعها الخيال اليهودي وتناغم معها الاستبداد السياسي السفياني والاموي - وبالعودة الى التاريخ نجد تعاضدا بين السفيانية واليهودية في زعزعة استقرار المجتمع وفي حركة الاغتيالات التي نالت من الرموز السياسية والدينية في القرن الاول الهجري , وهو ما نجده اليوم في واقعنا فالتاريخ الذي يبدأ على شكل مأساة دامية كالجمل وصفين وكربلاء.... الخ ينتهي بمهزلة كحركة التطبيع التي يتهاوى اليها اليوم شذاذ الافاق من رؤساء العرب.
وتلك حالة تتصل بشكل أو بآخر بنظام القيم وتوزيع نظام القيم في حالة تواشج دائم بالسلطة بأشكالها المتعددة الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية ويجمع المفكرون على أن سوء ممارسة السلطة يطور دائما قيما سلبية تجد من يسعى لانتهاكها.
 يحدث أن تتقاطع وجهات نظر الفاعلين الثقافيين والسياسيين , وحالة التقاطع هي التي تشكل باستقطاباتها النسيج الدلالي , الأمر الذي يجعل من قضية الالتباس قضية احتيال في مستوى يمكن التفكير فيه , فحقل الاحتمالات الدلالية المتشعب عنها يفصح عن قصور وعجز في التفسير والتأويل وتحديد المآلات وهنا ينشأ – كما يقول المفكرون نوع من التضاد الذي يتعمق كلما استمر سوء الفهم للفكرة فالذين يمارسون ازدواجا ظاهرا في شلالات الإيحاءات هم أكثر حرصا على إرسال رسائل مشبعة بالرموز والقرائن يهدفون من خلالها إلى تحقيق غايات ومقاصد في نفوسهم والوقوف أمام تلك الإيحاءات والقيام بتنفيذها والتأمل فيها يجعلها قابلة للفهم في كونها اتجاها لا ينتج عنها إلا قيما سلبية وقاتلة فالتضحية بفلسطين وبالقضية الفلسطينية حالة قاتلة وما أقدمت عليه السودان حالة قاتلة فقد دفعت مئات الملايين وذهبت الى التطبيع دون منافع أو امتيازات بل دفعت من قوت شعبها مئات الملايين في مقابل الوصول الى قيم سلبية وقاتلة  .
ما يميز الاحتفال بالمولد النبوي هذا العام هو الوعي بضرورات الاصلاح , فالإصلاح نسق فكري ثقافي حضاري تقدم عليه الامم لإنجازه بحطاب وتقنيات ومعطيات قادرة على التفاعل مع الواقع لا القفز على شروطه الموضوعية وقادرة على فرض طابعها الخاص الذي تتسم به المرحلة او يتسم به المستوى الحضاري الحديث .
ما يحدث اليوم في عموم الجغرافيا اليمنية هو عملية ثقافية تحفيزية تهدف على اكساب المجتمع هوية ايمانية مضافة وهي تعتمد اعتمادا متزايدا على مختلف الجماعات بهدف الوصول للوحدة المشتركة أو الاحساس بها في ظل ما يتعرض له الاسلام من هجوم ومن تشويه متعمد ويحمل شلال الايحاء المتدفق من بين حروفها مشروعا نهضويا كبيرا يصنع من الفكرة الدينية مشروعا سياسيا واعيا وقادرا على احداث التحولات وتحريك عجلتها وهذا ما تدل رموز واشارات خطب ومحاضرات السيد العلم قائد الثورة.
لقد كانت الرسالة المحمدية ثورة حقيقية أحدثت تحولا حقيقيا وتبدلا في حياة شرذمة تعيش على الاغارة والسلب والحروب والسبايا وتمعن في الضياع في الصحراء دون غاية , تستأجرها القوى الكبرى في ذلك الزمن وهم الفرس والروم للقيام بمهام تحقق لها المصالح وهي كالناقة العجفاء لا تدري ما تقوم به أو أين تسير فجعل منها أمة مهابة الجانب ذات شأن عظيم لبس أعرابها تاج كسرى ووطئت أقدامهم الحافية  أيوان كسرى في أنفة العربي الأصيل .
لقد كانت الرسالة المحمدية تحولا كبيرا في حياة البشرية جمعاء وليس في حياة العرب فهي تملك أسسا ومقومات المستويات الحضارية التي يتباهى بها الغرب اليوم من حيث حقوق الانسان ومن حيث العدل ومن حيث الخيرية ومن حيث المساواة ومن حيث النجدة والاغاثة ومن حيث المدنية وحرية التعبير.
لقد كانت أهم المنطلقات الفكرية لتلك الرسالة المحمدية الكبرى تقوم على مبدأ في "كل كبد حراء صدقة " وهو مبدأ سام غفل عنه الناس من أهل الديار الاسلامية وعمل به غيرهم فكان ذلك ميزة يتباهون بها في مقابل وصم العرب بالمجتمعات المتوحشة التي تهدد الحضارات الانسانية.
وشكلت هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة الى المدينة حالة انتقال من المجتمع القروي الذي يؤسس على العصبيات الى المجتمع المدني الذي يؤسس على التعايش والمحبة والسلام والحق والعدل والخير والمساواة في ظل حال التعدد في الثقافات فقد كان في يثرب الكافر واليهودي والنصراني والمسلم من مهاجر وانصار وشكلت وثيقة المدينة أول عقد اجتماعي ينظم مستوى العيش  عرفه تاريخ البشر وما يزال الكثير من الفرق الاسلامية التي تدعي الانتماء الى الاسلام تجهل مثل ذلك والادهى أنها تراه باطلا وكفرا يخالف المنهج الذي سار عليه السلف , ويرى البعض في الدستور كفرا جاء من الغرب لا يجوز العمل به ويقولون لا يصلح هذه الأمة الا بما صلح بها أولها وهم غافلون كل الغفلة عن المعاني الكبيرة في جوهر الرسالة .
كما أن الرسالة المحمدية لو كنا نحسن التأمل أول من تنبه لظاهرة الرفق بالحيوان وهناك الكثير من النصوص في هذا الباب ولكن الجماعات والفرق لا يقفون الى عند النصوص الموضوعة بغية تشويه الرسالة وفي غالبها من الاسرائيليات وقد فصل الفقهاء وعلماء الحديث القول في ذلك وهي نصوص نراها اليوم في سلوك داعش وغيرها من الجماعات التي نشأت تحت رعاية المخابرات اليهودية والكثير من الاخبار تقول إن زعيم داعش يهودي وظفته المخابرات العالمية لخدمة مشروعها الذي يسعى الى فرض الوصاية على المسلمين والعرب بحجة أنهم يشكلون خطرا على المجتمع الدولي .
ولعل الكثير يذكر قوله عليه الصلاة والسلام في حق طائر " من روع هذه في فراخها " وهي اشارة الى المحميات الطبيعية التي يعمل البشر من الحضارات الاخرى على الاهتمام بها.
وقد لا نقف طويلا عند قوله عليه الصلاة والسلام حين أمر بعدم تلقيح النخل فلم تثمر فقال:" أنتم أدرى بشؤون دنياكم " أي أن الفقهاء والعلماء لا يكادون يقفون عند مبادئ وقيم واشارات محمدية كان من حقها الاهتمام والتأصيل الفقهي حتى نسبق العالم في مستوياته الثقافية والاجتماعية التي يدعي تفوقه بها علينا وهي من صميم تجربتنا ومن صميم الرسالة المحمدية لكن غفلتنا عنها جعل لهم قصب السبق فيها.
لقد كانت الرسالة المحمدية تحولا بنيويا عميقا في حياة المجتمعات العربية وغير العربية واحدثت انتقالا ثوريا بالغ الاثر وتركت ظلالا ثقافيا كبيرا في حياة البشر لكن العرب غفلوا عن الكثير فسبقهم غيرهم فتراجع العرب وتقدم من سواهم.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا